Atwasat

تيار الوسط: ككتلة تاريخية لتكوين الديمقراطية

محمد عبد العزيز الفقهي الإثنين 10 أغسطس 2020, 12:05 مساء
محمد عبد العزيز الفقهي

قال تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " صدق الله العظيم .( البقرة ، 143).

إن من أسباب تأخر بناء الدولة الوطنية الديمقراطية بعد حقبة الاستعمار، و الخلاف حول هوية الحكم وما أدى إليه ذلك من التجاذبات الأيدولوجية بين اليمين الذي يقدم الذاكرة والتاريخ على حساب معاش الناس، واليسار الذي يقدم معاش الناس على حساب ذاكرتهم وتاريخهم. ففي منطقتنا مازال التجاذب بين التيار المحافظ أو السلطاني أو الإسلامي الذي لا يعترف بالدولة الوطنية، ويسعى لإقامة دولة الجامعة الدينية. والتيار التقدمي، المدني أو الوطني، الذي يسعى لقيام ودمقرطة الدولة الوطنية .

وكما قامت الديمقراطية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية بتيار الوسط المتمثل في الديمقراطيين المسيحيين كوسط يمين، و الديمقراطيين الاشتراكيين كوسط يسار، لن تقوم الديمقراطية في منطقتنا إلا على تيار وسط بين وسط يمين متمثل في إسلاميين مؤمنين بعدم التعارض بين الديمقراطية والشريعة، وبين دولة الجامعة الوطنية والشريعة وأن الجهاد هو للدفع وملكية للدولة وبأمر إمامها لا ملكية خاصة يقررها أفراد. ووسط يسار متمثل في تيار وطني تقدمي مؤمن بعدم تعارض السيادة الوطنية مع الديمقراطية، ولا التنمية مع الديمقراطية .

فالدول قد تقوم على أيدولوجية متطرفة من اليمين أو الشمال، أما الديمقراطية كحكومة التداول السلمي على السلطة بلا تعصيب لا تقوم إلا على الوسط .

بناء على ما ذكر، وفي هذا الظرف التاريخي، لابد من اجتماع أكبر قدر ممكن من المستقلين، مؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب من أنصار سبتمر وفبراير، ومن الإسلاميين المعتدلين، والوطنيين على مباديء إئتلاف الوسط، ككتلة تاريخية للوسطية السياسية، وليعمل لا كحزب ولا حركة بالضرورة وإنما منتدى ومظلة ميثاقية للعمل السياسي المشترك، وتنبثق منه أحزاب ومستقلون وقوائم إنتخابية، حتى تمنع أو تقلل من حدة الاستقطاب بين تيار اليمين واليسار، من أجل رسوخ الديمقراطية .

وللوسطية السياسية في سياقنا التاريخي أصلان رئيسان، وهما :
1- ديمقراطية مستدامة. تاريخيا الديمقراطية مرت بثلاثة أجيال. الديمقراطية الإقطاعية أو الأهلية أو الديمقراطية 1:0، وهي تداول سلمي على السلطة بين الإقطاعيين الذكور فقط، كالتي كانت في أثينا القديمة، وجمهورية روما التي استمرت زهاء الخمسة قرون. والطور الثاني للديمقراطية أيضا ولد في أوروبا في القرن التاسع عشر إبان الثورة الصناعية وثورات 1848، وهي الديمقراطية الرأسمالية، أو الديمقراطية 2:0، التي بدأت كديمقراطية لأصحاب رؤوس المال الذين لهم الحق في التصويت من دون الناس، ثم عمم التصويت، لكنها أصبحت قائمة على السوق الحرة وتحت تأثيرات المال السياسي. والعالم حاليا يشهد أزمة في الديمقراطية الرأسمالية لتراكم اللامساواة الاجتماعية. وخط التاريخ متجه إما إلى ترسيخ للحكم السلطوي والأوتوكراطي، أو إلى الديمقراطية المستدامة، أو لترسيخ الحكم الفوضوي عند فشل حلول الدولة. والديمقراطية المستدامة كدعوى وسطى، مبنية على ثلاثة مباديء: أولا الاتزان مع الهوية، وقانون البلد التاريخي. فالغرب هويته مسيحي، يهودي، وله إرث القانون الوضعي الروماني قبل انتشار المسيحية، ثم مذكرة نابليون . وطبيعي أن تكون الديمقراطية الغربية متزنة مع هويتهم. وهويتنا الإسلام، وهو قانون البلد التاريخي، فطبيعي أن تكون الديمقراطية عندنا إسلامية مع حق حكم الأقليات الدينية بقوانينهم الخاصة، في الأحوال الشخصية، والجنايات. المبدأ الثاني هو الاتزان مع العدالة الاجتماعية. وهو ما يحتم أن يكون الاقتصاد السياسي في الديمقراطية المستدامة هو الاقتصاد الوسطي أو المختلط المبني على الشراكة والاتزان بين القطاعين الخاص والعام. أي أن لا تكون اشتراكية الدولة على حساب رأسمالية الأشخاص كما في النظام الشيوعي، أو أن تكون رأسمالية الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين على حساب اشتراكية الدولة كما في بعض الأنظمة الرأسالمية. فالدولة بطبعها اشتراكية ولذلك وجدت، والإنسان بطبعه رأسمالي ولذلك خلق. وللدولة حق تأميم مصادر الطاقة الإستراتيجية، وللمواطن حق طبيعي في دخل أساسي يشتمل على جراية معيشة وبدل مركوب وسكن وتأمين صحي، بغض النظر عن كونه يعمل أم لا، لأن لا الدولة ولا السوق يستطيع توفير وظائف لكل الناس، خاصة مع التقدم التكنولوجي. لذلكم الخبرة هي دالة ترقية وليست دالة توظيف من عدمه، وهو من أخطاء المنطق الرأسمالي الذي عمم على العالم. ففي الديمقراطية المستدامة لابد أن يوفر دخل أساسي لكل مواطن، فيعطى نقدا للمستحق، أو تخصم القيمة من البيان الضريبي لصالح صاحب العمل غير مستحق لجراية الدخل الأساسي. ومصلحة التضامن في ليبيا، ومحفظة الأسهم للمواطنين هي خطوة في هذه الطريق، مع حاجتها لإصلاحات .

المبدأ الثالث هو التوازن بين السلطات الثلاث من جهة، و التوازن بين المبدأ النيابي والمباشر، وذلك بإضافة سلطة رابعة تحكيمية وهي الجمعية الوطنية النيابية، والاستفتاءات الشعبية كجمعية وطنية مباشرة عند الضرورة لمكافحة ثالوث التعصيب من احتكار، توريث ومحاصصة. كذا التحكيم بين السلطات في حالة الخلاف في القرارات ومشاريع القوانين، أيضا لموازنة السيولة الاجتماعية الناجمة من ثورة الاتصالات. والجمعية الوطنية النيابية تمثل الشخصيات الاعتبارية والتقليدية في المجتمع، بخلاف البرلمان كسلطة تشريعية ورقابية تمثل الشخصيات الطبيعية كمجموع أفراد. فالديمقراطية النيابية المحضة، كما في حال الجيل الثاني من الديمقراطيات، يعتريها مع الوقت الاحتكار والمحاصصة ويطرأ مايسمى الزبائنية التي تزيد الهوة بين الشعب كمصدر سلطات وكفاءة الحكومات. والديمقراطية المباشرة المحضة غير ممكنة وتؤدي إلى الفوضى. فمنطق السلطة مبني على النيابة والتفويض باعتبار الرأس- مال الفكري والدراية. لذا الديمقراطية المستدامة كديمقراطية جيل ثالث في تاريخ البشرية، هي الطريق الثالث والوسط بين الديمقراطية الرأسمالية النيابية المحضة، والحكم السلطوي سواء بصبغة دينية أم مادية ...
2- العلاقات الدولية المستدامة: وهي العلاقات الدولية الواقعية التقدمية والمبنية على الموازنة البناءة constructive balancing بين الدول. وتعني الموازنة البناءة سعي الدولة مع أحلافها إلى الموازنة في المباديء والقوى للوصول إلى نظام عالمي بناءconstructive world order . باعتبار أن النظام الدولي ينقسم إلى أربعة أنواع. النظام الدولي العقائدي أو الدوغمائي dogmatic world order وهو النظام الدولي الذي يبنى اصطفاف الدول فيه على عقائدية معينة لا المصلحة المحضة، كما في حالة الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي والمعسكر الرأسمالي. والنظام الدولي الهيجيموني أو hegemonic world order، وهو النظام الدولي الذي يبنى فيه الاصطفاف مع أو ضد القوة المهيمنة العالمية أو الإقليمية في زمانها باعتبار المصلحة المحضة. كما في حالة النظام الدولي بعد الحرب الباردة وقبل صعود الدب الروسي و الصين، حيث كان الاصطفاف مع أو ضد أمريكا. والنظام الثالث، هو نظام الوضع الراهن status quo world order ، وهو النظام الذي تكون فيه تعددية للأقطاب دونما موازنة في المباديء أو اتفاق في قواعد الاشتباك ، كما هو الحاصل حاليا بين الصين وروسيا وأمريكا. النظام الأخير، وهو البناء، وهو الموازنة المرحلية بين الدول باعتبار المباديء وتوازن القوى، والمصلحة المعتبرة أو المرسلة في زمانها، دونما الاصطفاف باعتبار العقائدية ولا باعتبار العلاقة مع القوة المهيمنة في زمانها، كما في حالة النظام الأوروبي concert of Europe المبني على توازن القوى المتكون بعد الحروب النابليونية، الذي هندسه المستشار النمساوي ميتيرنيخ ثم من بعده المستشار الألماني بسمارك. وروح هكذا نظام هو مبدأ حسن الجوار، ومبدأ بناء الأحلاف العسكرية باعتبار الاستضعاف لا الأخوة الدينية أو العقائدية التي تزيد من الاستقطاب في النظام الدولي. والعالم حاليا، ومنطقتنا العربية التي تعاني من شلل إستراتيجي منذ سقوط الإمبراطورية العباسية، وعمى إستراتيجي منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية بحاجة لهكذا نظام لعلاج انقسامها بين النظام الدوغمائي المبني على الاصطفاف باعتبار معاداة إيران أو الولاء لها، أو النظام الهيجيموني، باعتبار الاصطفاف مع تركيا أو ضدها مما جعل المنطقة في حالة فراغ سياسي و ثقافي، بعدما أنهكت من اصطفافات الحرب الباردة. ومن ثم النظام الأصلح لوطننا العربي باعتبار توسطه للقارات، وكونه مهدا للأديان والأماكن المقدسة لا يحتمل الشد والجذب، هو الموازنة البناءة، والتي أدناها الاصطفاف باعتبار الاستضعاف، وأقصاها تكوين الاتحاد العربي كجامعة لسان وجامعة وطنية كبرى لحل مشكل الشلل والعمى الإستراتيجيين، الأكبر من قدرة الدولة القطرية في وطننا العربي .

وليبيا، باعتبار موقعها وإمكاناتها، مرشحة لأن تكون حصانا أسود في رقعة شطرنج المنطقة، ومثابة وسطية سياسية لا مثابة ثورية، وأن تكون رائدة بالسياسة الواقعية التقدمية، والدبلوماسية الهادئة مع أحلافها في الموازنة البناءة إقليميا بين تركيا وإيران، لا أن تكون حديقة خلفية لهما، و لا حديقة خلفية للقوى المسيطرة عالميا، وأن تحافظ على علاقات طيبة ممكنة مع الجميع باعتبار المصلحة ومنطق الدولة reason de tat وأن تتحرك في الثلاث دوائر التالية، العربية، الإفريقية، والإسلامية، الأقرب فالأقرب، بتكوين الاتحادات الممكنة. والممكن في الدائرة العربية هو الاتحاد السياسي والاقتصادي و كونفيدرالية بالحد الأدنى باعتبارها جامعة لسان وذاكرة تاريخية، والممكن في الدائرة الإفريقية هو التنسيق الأمنى وحفظ السلام باعتبارها جامعة جوار فقط. والممكن في الدائرة الإسلامية هو الاتحاد الثقافي باعتبارها جامعة وجدان .