Atwasat

«مستر سو».. وطريق الحرير

محمد عقيلة العمامي الإثنين 03 أغسطس 2020, 12:51 مساء
محمد عقيلة العمامي

طريق الحرير يمتد من الإسكندرية إلى جنوب الصين، تحديدًا في مدينة «كوانجو» التي تعد من أهم مدن الصين التجارية، ويقام بها معرض «كانتون» الشهير مرتين في السنة: خلال فصل الربيع وأيضًا الخريف؛ وذلك تفاديًا لحرها الحارق في الصيف، وبردها القارس في الشتاء. يزور هذين المعرضين ملايين الزوار من مختلف بقاع العالم لا يضاهيهم عددًا، إلا زوار بيت الله الحرام وقت الحج. بالمناسبة يعيش بــ «كوانجو» وحدها نحو مليوني مسلم.

على جدار قديم، يمين مدخل عتيق بوسط المدينة لمحت لافتة صغيرة مستطيلة من المرمر منقوشة باللغة العربية، اقتربت منها كان المكتوب «روضة ابن وقاص»، وعندما هممت بالدخول، نبهني الخفير إلى أن باب الدخول من الجهة الخلفية.

سرت بمحاذاة السور، فوصلت شارعًا جانبيًّا صغيرًا. أمام الروضة سوق تعج بالباعة الجوالين وعددٍ من البؤساء، وبالناحية المقابلة مطعم مزدحم يعلن بالخط العربي أن لحومه حلال، وبامتداد الممر الذي يُفضي إلى صحن المسجد أناس متكؤون على سور قصير يحف الجانبين، عبر غابة لا يبدو أن أحدًا يعتني بها.

تابعت السير وراء زوار كثر ليسوا بصينيين، يعلن لباس العديد منهم أنهم مسلمون. ولا يختلف المغادرون عبر ذلك الشارع الضيق الطويل نفسه، عن القادمين. انتهى الممر عند مبنى أثري عتيق، ما أن عبرت بابه حتى دخلت ساحة في وسطها مظلة صينية الطراز، مطلية باللون الأحمر، أسفلها حُصر وسجاد قديم، يجلس فوقه بعض الزوار، منهم المتكؤون، ومنهم القاعدون، ويحف بهم عدد من مواطنين صينيين دائمي التبسم، والانحناء، يحيون ضيوفهم: «السلام عليك». وهناك مصلى، حيث يركع عدد من الراكعين. جلست أسفل المظلة، فقدم لي أحد رعاة المسجد كوبًا من الشاي، حاولت أن أسأله، ولأنه لا يتحدث الإنجليزية، أشار إلى مجموعة من شباب يتضاحكون، من بينهم كانت «فينكي»؛ وهي أقرب إلى طفلة مع مجموعة من أولاد وبنات في مثل سنها، عرفت أنهم طلبة مدرسة لغات، يعملون كمترجمين للزوار، الذين لا يتحدثون اللغة الصينية.

وأخبرتني «فينكي» أن الكثير من المسلمين يزورون هذا المكان، وأن «محمد بن سعد بن أبي وقاص» مدفون هناك. فلقد جاء مع والده ولكنه لم يعد معه مفضلًا أن يظل داعية إلى الدين الإسلامي.

وقالت إن دعوته خلفت ستة ملايين مسلم في الصين وحدها، وأخذتني نحو ضريحه، وجدت قبة فوق ضريح بغرفة صغيرة، لا تختلف عن أي ضريح «مرابط»، من الأولياء المنتشرة أضرحتهم بامتداد العالم العربي، خصوصًا ليبيا وتونس. هناك بداخل الضريح عدد ممن يبتهلون بأدعية، تمكنت من سماع صلاة وسلامٍ على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

في هذا المكان المبارك تعرفت على الطالبة «فينكي» التي سرعان ما أخذني ذكاؤها وسرعة فهمها. عرضت عليها أن تعمل معي مترجمة لقضاء حاجياتي أثناء المعرض، فقبلت، وسريعًا ما اكتشفت جوهرها وصدقها حتى أنها أصبحت بعد سنتين، تقوم باقتدار، بكل ما نحتاجه لعملنا، وأرسلت لها عددًا من معارفي، وأبنائي، وأصبحت «فينكي» معروفة في أسرتي خصوصًا من بعد أن بعثت لي صورة لها مع رضيع لصديقتها، فوضعتها في إطار على مكتبي وبعثت لها الصورة، وما خطر على بالي أن تنتشر دعابة مفادها بأنني تزوجت من هذه الصينية وهذا ابني، لأنه مثلما قالوا يشبهني تمامًا!

ولكن لماذا أقص عليكم حكايتي مع «فينكي»؟

حسنًا، ببساطة لأنني منذ أن عرفت والدها وقضيت معه يومًا وليلة، منذ 21 عامًا تغير الكثير من قناعاتي، وتحسنت حالتي النفسية والصحية أيضًا! فلقد كنت قبل ذلك اليوم ألهث طوال الوقت وراء إنجاز عمل ما، وظلت أيامي تمضي من دون إتمامه، إلى أن قضيت يومًا وليلة مع «مستر سو»، والد فينكي، التي أصبحت بالفعل كواحدة من بناتي، وبادلتني الإحساس نفسه. لقد دعتني بإصرار، لأكثر من مرة، لزيارة والدها. إلى أن أخذتني يوم عطلة رسمية إليه.

لم يكن المكان قريبًا من «كوانجو»، فلقد انطلق قطارنا في الصباح الباكر، ووصلنا قُبيل الظهر؛ كان بيته صغيرًا جدًا، يعيش مع عجوزه، التي لم تكن والدة فينكي. البيت غرفة فسيحة جدًا فوق ربوة تمتد أمامها ما لا أستطيع أن أسميها حديقة باعتبار أنها كبيرة، ولا مزرعة باعتبار أنها صغيرة. إنها جنة بديعة بأزهارها وأعشابها وثمارها، ينساب من جانبها ماء عذاب. طيور طليقة وإن كانت تعيش فوق الأشجار القليلة على أطراف هذه الحديقة.

واستقبلني شيخ يتحرك ببطء، مشرق الوجه متبسم على الدوام، يشبه ذلك الذي علم «بروس لي» فنون الاقتتال! أجلسني على كرسي مريح وأمامي تلك اللوحة الرائعة، على يميني جدار تتوسطه لوحة نحاسية زاهية الألوان منقوشة بأحرف صينية. قدم لي الشاي مرحبًا، وكان يتعين أن أبدي إعجابي بالمكان وهذا ما فعلته، وإن أضفت أن المكان يكون أكثر روعة لو كان يحوي بضعة حيوانات، وأضفت متفلسفًا ثغاء الحملان، والجديان يضيف بهجة وحياة للمكان، وفيما كانت فينكي تترجم، قال بهدوء كلمات عبر ابتسامته، التي لم تغب من وصولنا حتى رحيلنا، وترجمتها فينكي: «الحيوانات كلها، باستثناء الإنسان، تعيش لتستمتع بحياتها. أحيانًا تستمتع بطعم الأزهار فتفسدها!». عقبتُ متذاكيًا: «والإنسان؟» أجابني: «يبتكر، ولكنه لا يعرف كيف يستمتع بحياته!».

وتحدثنا في مواضيع عديدة يفحمني بإجابات مقتضبة ولكنها بليغة. ولما قلتُ لفينكي: «لابد أنك تعلمتِ الكثير من والدك الحكيم هذا»، أجابتني: «نعم.. نعم» وقامت نحو تلك اللوحة النحاسية وأشارت: «هذا ما علمني إياه، وهو سر سعادته وتناغم روحة وروحي: «لا تؤجل إمتاع نفسك.. فقد لا تكون ثمة فرصة أخرى».

ذلك المساء كان بديعًا، واستمتعنا بالأطباق الصينية اللذيذة، وبالمكان، وحديث «مستر سو» الذي لا يُمل، ولذلك قررنا أن نمضي الليلة هناك، فالمكان ممتع وفسيح، وسيشرق يومٌ غدًا يمضي بنا نحو طريق الحرير.