Atwasat

درس أثينا.. وجائحة «كورونا»

عبد السلام الزغيبي الإثنين 03 أغسطس 2020, 12:44 مساء
عبد السلام الزغيبي

في العام 430 قبل الميلاد، اجتاح أثينا مرض الطاعون الذي قتل الآلاف، ومن بينهم الزعيم السياسي اليوناني بركليس.

عندما أصاب الطاعون أثينا كانت قد دخلت الحرب قبل فترة قصيرة، وتم إرسال وحدة عسكرية كبيرة إلى «إسبرطة» لاستكمال الأعمال القتالية فيما يعرف بالحرب «البيلوبونيسية»، لكن لسوء الحظ نقل الجنود الطاعون معهم إلى الشمال ومات أكثر من ألف شخص هناك بهذا المرض.

 وصل الطاعون إلى أثينا العام 430 قبل الميلاد خلال ثاني سنوات الحرب البيلوبونيسية، قادمًا من جهة ميناء بيرايوس، فعصف بالمدينة وتسبب خلال فترة وجيزة في سقوط عدد كبير من الضحايا كان من ضمنهم المؤرخ الإغريقي الشهير ثوكيذيذيس (Θουκυδίδης)‏ صاحب كتاب «تاريخ الحرب البيلوبونيسية»، ويعد أول المؤرخين الإغريق الذين أعطوا للعوامل الاقتصادية والاجتماعية أهمية خاصة، والذي تمكن من النجاة بعد معاناة شديدة ليدون لاحقًا أحوال أثينا خلال فترة المرض، ويؤرخ مجريات الحرب البيلوبونيسية التي استمرت بين العامين 431 و404 قبل الميلاد.

 وعلى حسب ما نقله المؤرخ ثوكيذيذيس، نشأ هذا الوباء بجنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا عند مناطق بجنوب إثيوبيا، وانتقل منها نحو مصر قبل أن يحل بأثينا عن طريق ميناء بيرايوس الذي اعتمد عليه الأثينيون خلال الحرب مع إسبرطة.

ومع اندلاع المعارك، امتلك الإسبرطيون وحلفاؤهم أعدادًا كبيرة من الجنود فركزوا جهودهم على الحملة البرية. وفي المقابل امتلكت أثينا عددًا مهمًا من السفن والبحارة، ففضلت الانسحاب خلف أسوار المدينة وشن حملة بحرية ومهاجمة قوات إسبرطة انطلاقًا من البحر. وبسبب الانسحاب، تزاحم عدد كبير من السكان داخل أسوار أثينا وسط ظروف صحية سيئة مسهلين بذلك عملية انتشار الوباء.

وعلى حسب ما رواه ثوكيذيذيس، عجز الأطباء عن تشخيص وعلاج هذا المرض، وكانوا أول ضحاياه بسبب احتكاكهم مع المصابين. كما تحدث المؤرخ الإغريقي عن معاناة المرضى من حمى شديدة أجبرت كثيرًا منهم على خلع ثيابهم أو الاستحمام بالماء البارد، مؤكدًا عدم قدرتهم على النوم وظهور حالات إسهال بينهم وانتشار التقرحات على أجسامهم.

أيضًا، أخبر ثوكيذيذيس عن رفض الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة أكل لحوم ضحايا المرض بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منها، وتحدث عن معاناة الناجين منه من تشوهات خلقية عقب شفائهم.

عاود الوباء ظهوره مرتين خلال العامين 429 و426 قبل الميلاد، وأسفر عن وفاة نحو 100 ألف شخص وهو ما يعادل ثلث سكان أثينا التي تراوح تعدادها السكاني حينها بين 250 و300 ألف نسمة. وقد كان من ضمن ضحايا هذا المرض القائد التاريخي «بريكليس»، الذي قاد أثينا أثناء الحرب البيلوبونيسية. ومع انتشار الوباء بأثينا، تخوف الإسبرطيون من انتقال العدوى إليهم، فعمدوا لسحب قواتهم والتراجع لتجنب الاحتكاك مع جنود أثينا المرضى.

بناء على ما ذكره ثوكيذيذيس، انتشرت الجثث بالشوارع وترك العديد منها ليتعفن في الطرقات بسبب خوف الأثينيين من انتقال العدوى إليهم في حال اقترابهم منها.

كتب ثيوسيديدس يصف أحوال الناس عندما اجتاح الطاعون أثنيا قائلًا: «أحد أسوأ أعراض مرض الطاعون هو شعور الناس باليأس عندما يدركون أنهم باتوا أسرى المرض، ومن كان منهم مقتنعًا بأن لا أمل له في الشفاء

من المرض كان يستسلم لقدره ويموت سريعًا».

وكانت أثينا دولة غير مستعدة لمواجهة تحدي هذا الطاعون، ويصف ثوكيذيذيس عدم جدوى أي استجابة بشرية بالقول إن مناشدات الآلهة وعمل الأطباء -الذين ماتوا بأعداد كبيرة- كانتا وسيلتين عديمتي الفائدة على حد سواء، وتسبب المرض في الدمار، لأن الأثينيين تكدسوا داخل أسوار المدينة تجنبًا لمواجهة مفتوحة مع جيوش إسبرطة خلال حرب البيلوبونيز المأساوية بين المدينتين التي استمرت أكثر من سبعين عامًا.

وأحالت الإستراتيجية العسكرية التي انتهجها بريكليس (أحد أشهر القادة اليونانيين القدماء) أثينا إلى مرتع للمرض، عندما اقتنع مجلس الحكم فيها بالتخلي عن المناطق الريفية المحيطة لصالح كتائب المشاة الإسبرطيين، ونقل سكان هذه المناطق إلى داخل أسوار المدينة المكتظة بسكانها، وأرسل البحرية الأثينية لغزو السواحل البيلوبونيزية أملًا في حمل القيادة الإسبرطية على وضع حد للحرب.

ولم يكن منطق بريكليس الإستراتيجي والعسكري تشوبه شائبة، لكن الاختباء خلف الأسوار العالية أفضى إلى عواقب وخيمة، وقتل الطاعون ما يقدر بمئة ألف شخص، وتوفي العديد من مشاة أثينا والبحارة الخبراء، وكذلك جنرالهم بريكليس، وبعده حكمت أثينا مجموعة من القادة وصفهم ثوكيذيذيس بأنهم غير أكفاء وضعفاء.

أسهم هذا الوباء الذي عصف بأثينا في تراجع مكانة هذه المدينة وانهيار مجتمعها، كما أثر بشكل كبير على مستقبل الحرب البيلوبونيسية التي شهدت لاحقًا انتصار إسبرطة وحلفائها.

وفي هذا المجال لا نستطيع أن نغفل عن ذاكرتنا ما كتبه المسرحي التراجيدي سوفوكليس في مسرحيته «أوديب ملكًا» التي يكافح بطلها لتحديد سبب الطاعون الذي ضرب مدينته طيبة، وأهلك الحرث والنسل وامتلأت الأرض بالجثث وسادت الفوضى، ليكتشف أن السبب هو القيادة السيئة للمدينة.

إذا قارنا بالوضع الليبي الحالي، وانتشار الوباء في البلاد «جائحة كورونا» وحاجتنا الملحة والعاجلة للتوحد لمجابهة الوباء الجماعي، نرى إصرار المعسكرين المتحاربين «عملية الكرامة» وتحالف القوى الإسلامية والجماعات المسلحة، على استمرار الحرب الأهلية، ليتضح لنا أن الشعب الليبي قد بلي بقادة سياسيين وعسكريين غير مدركين لمخاطر وعواقب استمرار غرق البلاد في مزيد الفوضى مع تواصل حرب بلا نهاية، دون أن يعوا أن الحرب رهان خاسر للمنتصر والمهزوم على السواء.