Atwasat

«خرفن»!!

صالح الحاراتي الأربعاء 29 يوليو 2020, 04:47 مساء
صالح الحاراتي

في بعض مناطق بلادي ليبيا، لفظ «خرفن» يعني جمع «خروف». والخروف كما نعلم قطيعه الغنم، وذكره الكبش، وأنثاه النعجة. وفي معجم المعاني الجامع نجد أن جمع الخروف: خِرافٌ، وأَخْرِفة، وخِرْفانٌ.

في عيد الأضحى يطغى الحديث عن الخرفان من ناحية غلاء أسعارها، وعن مواصفاتها وأنواعها وشروط الأضحية، وما إلى ذلك من أحاديث تختص بـ«الشواء والعصبان والقديد»، وما إلى ذلك من المأكولات. ولكن هنا أردت أن يكون الحديث عن الخروف بمقاربات ومترادفات لغوية تقترب لغة من الخروف ولكن لها دلالات أخرى.

مثلا خَرَف: «اسم»، مصدر خرُفَ، وخرِفَ تعني تدهوراً عقلياً وجسدياً مميزاً للتقدم في السن.
خرُف الشيخ: أي فسد عقله من الكِبَر.
وخرُف المتكلم: أتى بكلام ينكره العقل، أي فقد ترابط فكره أو تعبيره.

فالخَرَف هو مرض تتضرر فيه الوظائف الإدراكية «القدرة على التفكير»، والعقلية «الوظائف العاطفية والسلوكية». وهو مرض يمس وبشكل تدريجي الذاكرة، بحيث تقل القدرة على التفكير، والإلمام من حيث الزمان والمكان، والقدرة على تشخيص الأشخاص والأشياء. عقب ذلك يطرأ انخفاض تدريجي أيضاً على القدرة للقيام بالأعمال اليومية وعلى التواصل مع المحيط.

وهنا يبرز سؤال: هل الخرف مرتبط بالتقدم في العمر أم ممكن أن يحدث في سن مبكرة إذا تنازل الإنسان طواعية عن عقله؟!

هناك تعبير شائع يطلقه البعض على نوعية محددة من البشر، مشيراً إليهم بأنهم مثل «قطيع الخرفان»، فهل هناك علاقة بين أولئك والخرف؟ ربما كان ذلك هو المقصود وربما لتوصيف حال بعض بني البشر، حين يقال إن أولئك البشر «ينقادون كالخراف»، أي يسلكون مسلك الآخرين دون تفكير ولا روية.. ويأتي سؤال آخر.. لم التشبيه بالخروف تحديداً؟ لأن الخروف كائن يأكل ما يوضع له دون تململ أو انزعاج، وعندما يحين وقت التضحية به لا يقاوم، وباختصار لأن المادة الوحيدة في دستور الخرفان هي السمع والطاعة.

وهنا أقر ليس رأياً عابراً بل اعتقاد جازم بوجود الكثير من «الخراف البشرية»، التي لا تفقه ولا تعقل ويضحى بها بكل سهولة.. بل هناك نوع انتشر في بلادنا، ولا أعلم كيف تم استيراده أو حتى كيف تم تهجينه، وهذا النوع يأكل ما يقدم له، وكما هو حال قطيع الخرفان التي اشتهرت بأنها كائنات حمقاء، عديمة الحيلة، تتسكع بلا هدف، كذلك هذا الصنف يردد ببلاهة ما يأتيه من وراء الحدود ويظن أنه على صواب مطلق.

والحديث عن «الخرفن» يمضي بنا إلى مصطلح آخر هو «سياسة القطيع»، وبشكل عام تعني هذه الظاهرة في عالم الاقتصاد أن المستثمرين أحدثوا حالة فجائية من «الحركة» في «اتجاه» الشراء أو البيع لأداة مالية معينة في شكل قطيع؛ ويظهر هذا على شاشات التداول بالبورصة، وإذا سألت أحدهم لماذا تشتري أو تبيع هذه الأداة المالية؟! يجيبك: «الناس كلهم يشترون» أو «الناس كلهم يبيعون»؛ وفلسفة سياسة القطيع تقع ضمن المواقف التي يتصرف فيها الأفراد من خلال ظاهرة «غريزة التقليد أو استنساخ تصرفات الآخرين»، حيث لا يوجد تبرير منطقي لهذا السلوك.. وقد بينت الدراسات أن سلوك القطيع لا يقتصر على المستثمر العادي بل تشمل الطائلة المستثمرين الكبار.

والخلاصة أن سلوك القطيع هو «التقليد والاتباع»، وهو مصطلح يطلق على سلوك الأشخاص في الجماعة عندما يقومون بالتصرف بسلوك الجماعة التي ينتمون لها دون كثير من التفكير أو التخطيط.. المشكلة أن هذه العقلية بقيت كإرث وكموروث ثقافي في معظم مجتمعاتنا رغم التعليم، والتطور النسبي للوعي العام.

هكذا هو حال جميع الشعوب المتخلفة، منقادون كالعميان، وعندما يقترح أحدهم تطويراً أو وقوفاً ضد المعتاد فأفراد القطيع هم أول من يرفضه، لأنه خرج على تعاليمهم وتقاليدهم التي رسخت في أذهانهم وتبرمجت عليها عقولهم!

الشاهد أن كلمة الخروف تبقى كلمة تطلق على التبعية العمياء عموماً والانصياع الاستسلامي للآخر.

ولعل الأشهر والأخطر هو خروف الفكر؛ وهو الشخص الذي يسلم عقله لغيره، فهو يريد لشخص آخر أن يفكر عنه ويكون هو الراعي لقراراته، فلا يبحث أو يكون له رأي خاص أو انتقاد، ويمتاز بالثقة العمياء لأفكار من قرر الانتماء إليه، ويستخدم مغالطة معروفة في علم المنطق وهي الامتثال لرأي الأغلبية أو كلام الناس، فكل كلامه يحمل عبارات: يقول الناس، هم قالوا. فدائماً يحمل صحة كلامه بأن هناك أشخاصاً يقولون ذلك، ويمتاز هذا الخروف بحبه للقطيع والتحدث برأيهم والتلون بفكرهم.

وعن «الخرفنة» يقول المفكر الدكتور مصطفى حجازي في كتابه «الإنسان المهدور»:
«ليس هناك في التبعية حوار أو تبادلية، بل فوقية من جانب وامتثال من جانب الأتباع، في هذه الحالة ينتفي النقد والتساؤل، كما تنتفي المرجعية الذاتية عند أعضاء الجماعة، ويصبح مركز الضبط خارجياً بمعنى أن الإنسان لا يتصرف أو يقرر انطلاقاً من إرادته الذاتية أو مبادراته أو تفكيره الخاص، وهو لا يتساءل بل يتلقى الجواب الواحد الوحيد ذا الطابع اليقيني، وبذلك يهدرالفكر ويهدر معه الاستقلال».

وأخيراً أشير إلى أن هناك كلمات ضد كلمة الخرفنة، هي الحرية أو الاستقلالية الفكرية أو قوة الإرادة والاختيار، ولو أخذنا هذا المقياس ووضعناه على كل أبعاد حياتنا فلن نجد في أي قرار أو سلوك نقوم به إلا إحدى هاتين الصفتين إما «حر» وإما «خروف».