Atwasat

ما أنا بقارئ!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 28 يوليو 2020, 09:14 صباحا
أحمد الفيتوري

لا يمكن لفها في قرطاس

ولا أن القراءة السؤدد،
سادت الظلمة كل شيء
كل شيء في وقته جميل.
غير أن الحب لا ينتظر أحدا
فالحياة ليست محطة أتوبيس،
القراءة ليست السؤدد
حين يجب أن تقضم نهد السندوتش.
قالت وغادرت الصفحة،
وإن لم تغلق الكتاب.

تـتـكيء جدتي عند الضحى، قرب باب البيت، تُطلق خيط الكلام، مع أي أحد ولا أحد. وقتذاك أطلق خيط الطائرة الورقية، التى تنساب فى الهواء، كما كلام جدتي، لم يكن لكلينا هدف،أو بالأحرى هدف مشروط بذاته، حرية تبتكر نفسها.
تحققت مع الأيام،أن القراءة عُزلة،وأن القارئ وحيد، رغم أن جدتي، كانت تظن أن للأحرف أرواحا، وأن هذا الحرف أوزة، وذاك خروف، فعندها الأبجدية خلق الله، ولكل مخلوق تعين. تعينت في الأحرف كل الموجودات، فالرسم العلامة كليم، أنطقت الحج، وجعلت فراغ الغرفة ضاجا بالكائنات.

انفردتُ عن جدتي، بمن هو صديق، خالي الصغير، من يكبرني بسنوات قليلة، من يحب قصص الأطفال، ومن بحوزته مجلات سمير، وميكي، وسوبرمان، كى أنشغل عن الدروس الإلزامية المدرسية؛ استهوتني الرسوم، في القصص المصورة، والرسم الساخر خاصة؛ منها اتخذت ملاذا يأويني من أبي، ومُدرسي عبد القادر شبه الأمى، من يطلب منا قراءة الدرس وحفظه، دون أن يبذل أي جهد معنا في الخصوص، وكل البلادة التي اسمها الواجب والنجاح، واستعادة المحفوظات خاصة الدينية منها؛ كثيرا ما ضُربت فلقة، لعدم حفظ بعض الآيات القرآنية، حتى كُتب لي حجاب، يُقوى ذاكرتي، كى أتقي نار يوم الحساب.

ترحمت على والدي، وغضبت من أمي، أبي فك عقدتي وعقلي بفك الخطوط؛ الأسطر السوداء والفراغات البيضاء، الموجودة بين الأسطر، تحولت فجأة إلى معان ذات إيقاع، هذا ما استطاع أن يحققه وحده دون معونة أحد، غير دعم أبيه الأمي، وأمي فعلت ما كانت تفعله أم (البرتو مانغويل)، صاحب كتاب (القراءة): اذهب إلى الخارج، وعش حياتك، هكذا كانت أمي تقول دائما، عندما تراني أقرأ، كما لو أن انشغالي الصامت هذا، كان يتعارض مع تصوراتها عن الحياة.

القراءة القيد الذي سيحررك، قال أبي ذات مرة، أردف، أنت حر، أن تقرأ أو لا تقرأ، فلست مسؤولا على الغد أيضا، وقد كان أبوه أعمى، جدى من يتلحف عباءة صوف على الجلد والعظم، وكمتصوف خيل لى، أنه يقتات من ترديد آيات القرآن والذكر ومدح الرسول، لم يكن يفك الخط، لكنه حفظ الكتاب عن ظهر قلب، اعتزل الناس، مكتفيا بأنه فك لغز الحياة، وانحل في الوجود، كشبح من طيب تراءى لي هذا القارئ، الموجود من خلال ما يردد في خلوته؛ من الحرف عنده، طائر لا يجب أن يؤسر في دواة وحبر، ولا أن يرقن: ما يرقن سيكون طعاما قديما لا يمكن إنقاذه وغذاءً للعث، جدى حكيم، نقش في صدره معارفه، لهذا كرهت الورق. كثيرا ما شهدت على مريض، يستغيث ببركة جدى، الذي يتمتم جهرا، بآية قرآنية، مشفوعة بأدعية سرية، على رأس المريض، حيث يضع يده، ولأن الشفهي مخلوط بالروح، عادة لم يخرج هذا المريض من بيتنا، إلا مشفيا عفيا.

لم أحب واجب القراءة، كما أحببت العصافير الطليقة، كما أحببت الحروف، وهي تطير من كتاب القراءة، كما أحببت المجلات المصورة، ما فيها الرسومات تتكلم، كم أحببت عزلتي مع مجلاتي تلك. وقد امتلأت غرف خيالي، بكائنات خلقتها، كي تواجه الرسومات المتكلمة، كان خيالي يخصبه سوبرمان، وهو يضغط على الفحم/ الكربون فيحوله إلى ماس، فيتساءل عقلي، كيف تسنى له ذلك، بحث بشغف القارئ عن جواب، في سلسلة علمية مصورة للناشيئن، تصدرها في كتب مترجمة مؤسسة الأهرام المصرية: الماس أصله كربون، تحول بفعل ضغط عالٍ.

تمكنت من قراءة، السحب البيضاء الناصعة، في السماء الشديدة الزرقة، فأخذت من البدء أكتب ما أقرأ، وكأنما القراءة لا تصح دون الكتابة، كتبت على الحوائط، والأبواب، والمجلات، والكتب، على الأوراق البائدة، وقبل على الأرض، حتى أني كنت في الفصل المدون الحريف، أكتب ما أقرأ كي أقرأ ما لم أكتب.

تـتـكيء جدتي عند الضحى، قرب باب البيت، تطلق خيط الكلام، مع أي أحد ولا أحد. وقتذاك أطلق خيط الطائرة الورقية، التى تنساب فى الهواء، كما كلام جدتي، لم يكن لكلينا هدف، أو بالأحرى هدف مشروط بذاته، حرية تبتكر نفسها.