Atwasat

تنهيدة المقموع

سالم العوكلي الثلاثاء 28 يوليو 2020, 09:09 صباحا
سالم العوكلي

في كتابه “نهضة الأعيان” يقول الإمام العُماني ابن حُميّد السالمي في إطار تفويضه لحكم الإمامة: “ليست الإمامة أمرا مخترعا في الوقت الجديد، بل هي سلطةٌ دينيةٌ سياسيةٌ، جرى عليها الخلفاء الراشدون، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبقيت بعمان منذ القرن الثاني من الهجرة… ومتى صحّت البيعةُ باتفاق العلماء، كان حقا على العامة من الرعية أن يسمعوا ويطيعوا للإمام، وأن يسلموا الأمر لأهل العلم، وليس لحاضر أن يأبى منها، ولا لغائب أن يتخلف عنها، ولا لمختار أن يختار. إن العلماء حكامٌ على الملوك، والملوك حكام على الرعية" ويشكل هذا الخطاب رؤية عامة لأطروحة الإسلام السياسي التي بنيت عليها منظومات حكم عديدة في منطقتنا، من إيران إلى المغرب وما بينهما، وهي الأطروحة التي يتبناها ما يسمى الآن "الإسلام السياسي" الذي يصارع على السلطة بأدواتها الحديثة للنكوص إلى هذا النظام الذي يشكل عقيدته الأساسية، حيث الإمام أو المرشد الأعلى أو الخليفة أو ولاية الفقيه، يجسد رأس الطبقة الدينية المتحالفة مع النظم الوراثية لتكريس هذه السلطة المزدوجة، وهي العقيدة التي أودت بحياة سيد قطب حين طرح نفسه وفق هذه العقيدة كسلطة يجب أن تكون أعلى من سلطة عبد الناصر. وهي صيغة مبدأها الأساسي الطاعة لولي الأمر حين يكون خاضعا للسلطة الدينية "حتى لو جاء عن طريق سفك الدماء" كما قال الشيخ السلفي أسامة العتيبي في حوار معه في إحدى القنوات الليبية.

على مر التاريخ ظل استخدام السحر، أو الخرافة، وفيما بعد الدين، أداة من قبل السلطة (بكل شبكاتها) للتحكم في الناس أو الرعية، امتدادا للأساطير القديمة التي أرسى فيها مخيال السلطة تلك المقايضة بين البشر الأبطال والآلهة لدرجة التداخل الوجودي.
في كتاب "عتاد الفيلسوف" تأليف: بتير س. فوسل / جوان باغيني، ترجمة نجيب الحصادي ــ قيد الطبع ، يرد: "... لأن الرأسمالية كانت في حاجة إلى فصم العرى الاجتماعية المحلية التي تميز الإقطاع، طورت بنى دينية فوقية أكدت أولوية الوعي الفردي على السلطة الكنسية الإقطاعية التعاونية. والراهن أن ماركس قد اشتهر بقول إن الدين أساسا أداة تستخدمها الطبقة الحاكمة لتهدئة من تستغلهم، وتستخدمها الطبقة المستغَّلة لتسكين ألم الجرح الذي ألمّ بها على يد حكامها. وعلى حد تعبيره، في عمله الصادر عام 1844 (إسهامات في نقد فلسفة هيغل في الحق): "الدين هو تنهيدة المقموع، قلب عالم بلا قلب، ونفس ظرف بلا نفس. إنه أفيون الشعوب.".

لقد اختزلت أطروحة ماركس الناتجة عن بحث في تاريخ هذا التحالف الخبيث بين المؤسسة الدينية والسلطات الحاكمة في الجملة الأخيرة، التي أصبحت اقتباسا أثيرا لمن يريدون تمشيط الأدمغة الورعة من خطاب ماركس التنويري. وباعتبار ماركس باحثا في تاريخ الصراعات البشرية ومحركاتها الأصيلة، نازلا بمثالية هيجل فوق الأرض، لم يكن ضد الدين كأحد المحركات الأساسية للتاريخ، لكن كان كاشفا لتاريخ توظيفه لصالح استقرار الطغيان السياسي كمخدر مناسب لضحايا هذا الاستبداد، وإقناعهم بأن كل ما يتعرضون له هو عقاب من الله أو في أفضل الأحوال امتحان لإيمانهم، أو ما يسميه "الوعي الزائف" الذي وضعت ركائزه هذه المقايضة بين القصر والمعبد والذي سيتم تطويره ليناسب عقائد السياسة الحديثة، حيث تُسوّق الأهداف الحقيقية لتشديد قبضة السلطة في مغلفات براقة من الشعارات الزائفة. ودائما كان الهدف الخفي من مثل هذه التحالفات، أو تقلبات النفوذ والسلطة، أو من الحروب وغزو الأمم الأخرى، مختلفا عن المعلن رسميا من غايات هذه الحوادث، ودائما كان الساسة والطغاة يرتكبون الجرائم والسلطة الدينية تبرر وفق الأهداف المعلنة وليست الحقيقية: "وعلى نحو مماثل، جادل ماركس بأن الجموع فيما يفترض أنها مجتمعات رأسمالية ديمقراطية قد استُدرجت إلى صور متنوعة من "الوعي الزائف"، كالاعتقاد بأن الحقوق السياسية الليبرالية، مثل حرية التعبير والتجمع، قد طوِّرت من أجلهم وأنهم يتمتعون بالفعل بها. غير أن هذه الحقوق لم تُطوَّر حسب ماركس إلا من أجل الطبقة الحاكمة، ولا يستمتع بها فعليا أحد سواها، ولا تصان في الممارسة إلا من أجل هذه الطبقة أو من أجل مصالحها.

ولهذا لم تشن الحرب الأهلية الأمريكية، التي كان ماركس يغطي أخبارها صحفيا، من أجل إنهاء الرق بل لتمهيد الطريق للتدخل الرأسمالي في الجنوب الأمريكي. وعلى نحو مشابه، قد يجادل الماركسي بأن الفصل العنصري الأمريكي قد انتهى ليس بسبب الدهاء السياسي أو الحجج البارعة لدى مارتين لوثر كنغ الابن وغيره، بل لأنه من مصلحة الرأسمالية أن ينتهي.". وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول هذا الانحراف البوصلي للأهداف، إلا أنه يمكن أن نقرأ الكثير من الأحداث التي تحرك هذا العالم دون أن نفقد رزانتنا، لكن إغراء استخدام الدين لم يتوقف حتى في أكثر الدول علمانية وتقدما وابتعادا عن القدرية، بينما في منطقتنا يصل الآن إلى ذروته عبر استخدام المتشدد منه في نشر الفوضى، والمعتدل منه في احتواء المتشدد من أجل تمهيد هذه المنطقة المغلقة لبناء الهيكل وتخدير شعوبها كي تستسلم لهذا القدر الأرضي، وكل ذلك يتم في ظل لافتات براقة تتغني بقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. والهدف الفعلي دائما يختلف عن الغاية المعلنة التي غالبا ما تتبرج بهالة أخلاقية لتمريرها في قلب شهوات المنطقة.

لم تعد هذه الأفكار ضمن أرشيف ماركس فقط، بل أصبحت أسئلة تطرح حتى من قبل المنافحين لوقت طويل عن الليبرالية أو الرأسمالية كمحطة أخيرة لقاطرة التاريخ، يضيف المؤلفان: "وقد أصبحت مثل هذه الأساليب في التفكير شائعة تماما، ولم تعد تُستخدم من قبل الماركسيين وحدهم. وهكذا جادل كثيرون، مثلا، بأن الحرب العراقية، كحرب الخليج عام 1990-1991 التي سبقتها، لم تشن لحماية الشعبين العراقي والأمريكي أو سيادة دول صغيرة مثل الكويت بل للسيطرة على منطقة إستراتيجية بما يضمن للأوربيين والولايات المتحدة منفذا إلى نفط الشرق الأوسط".

وضمن هذا التحليل، وبعيدا عن أشباح نظرية المؤامرة التي يخيفنا بها البعض، من الممكن أن نقرأ طبيعة كل التدخلات في المنطقة، وتعامل القوى الفاعلة مع ظاهرة الربيع العربي، أو مغزى دعمها لما تسميه "الإسلام المعتدل" كي يحل محل النظم الدكتاتورية التي أُطيح بها، أو إعطاء النظام التركي الضوء الأخضر كي يحتضن ويدعم الجماعات الإرهابية على مرأى من القوى التي تنال شرعية غزو أي دولة تحت شعار محاربة الإرهاب، أو لعبة الشطرنج التي تلعبها أنقرة مع موسكو على رقعة الشرق الوسط، ووفق هذا التحليل يمكننا أن نجوب الأسئلة الغامضة عن أسرار جائحة كورونا، وما يحيط بها من غموض في طريقة تنقلها وانتشارها، وكل ما يطرح من أسئلة حيالها، وكل محاولة إجابة تخفي خلفها ماكينة الرأسمالية المحتضرة التي مازالت تصنع وتصدر سلعة "الوعي الزائف" بما يشبه ألعاب السحر التي تجعل أنظارنا موجهة إلى غير المكان الذي تُمرر فيه الخدعة الأصلية.

تلجأ المجتمعات المستقبِلة لهذا الوعي إلى أفيون الدين كي تروض رعب هذه الجائحة بنشر وعي مماثل عن العقاب والامتحان، أو قرب الساعة، أو بالأدعية التي تتوجه إلى الله لحماية المسلمين، بينما في الدول المصدرة لهذا الوعي الشائه تحل المختبرات محل المعابد المقدسة، ويغدو الإعلان كل مرة عن اكتشاف؛ أو الاقتراب من اكتشاف، لقاح أو علاج لهذا الوباء نوعاً من المخدر، بينما منظمة الصحة العالمية التي تجد نفسها لأول مرة في مواجهة وباء عولمي يتحرك بدون قدرة على التنبؤ، تجد نفسها مرتبكة فتعلن أن هذا الوباء دائم وأبدي وعلى البشر أن يتعايشوا معه.