Atwasat

فلسفة (الفيتا) اليونانية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 27 يوليو 2020, 04:09 صباحا
محمد عقيلة العمامي

على الطريق العام الذي يربط أثينا بشرق اليونان تقع قرية (اينوفيتا) الهادئة تقع، تقريبا، في منتصف المسافة ما بين أثينا و(خالكيدا). يعيش الكبار من أهلها على أعمال زراعية ورعوية بسيطة، أما أغلب شبابها فيعملون في أثينا، أو في ميناء خالكيدا لمراكب صيد الأسماك، أو الاسفنج، وتقتصر زيارتهم لها أيام العطلات والأعياد.

ما إن يغمر القرية الظلام، حتى تصمت تماما، ولا يرى المرء سوى بقع ضوء أسفل فوانيس الشارع الرئيسي، ولا يسمع سوى أصداء أوتار البازوكي وتأوهات الوجد ولوعة البعاد بإيقاعاتها الحزينة. قد يسمع بضعة ضحكات من حانة (كريستو) الوحيدة في مدخل القرية، التي تكون ساحة لمباريات لعب الورق، وكؤوس (الأوزو) ما بين عجائز القرية حتى الغروب، أما بعده يبتدئ تبادل الأنخاب، وأغان يونانية قريبة من أغاني العلم الليبية.

منذ أن اختارها أحد الأصدقاء مقرا لإقامته، في منتصف السبعينيات تعددت زياراتي لها، بل جعلت منها استراحة لي من صخب ليالي أثينا. أخذني هدوء القرية وطيبة أهلها، وزاد من ذلك تلك العلاقة الدافئة التي تخلقت مع (مانولي) ذلك العجوز الرشيق، الذي له من الفلسفة، وحب الحياة ما جعلني أتخيله من سلالة سقراط مباشرة! وإن كان يشبه إلى حد كبير"إرنست هيمنجواي، على الرغم من أنه أكبر سنا منه. يتعيش (مانولي) وزوجته (إيريني) من رعي (شلاق معيز وضأن)، وتصنيع جبن (الفيتا) اليونانية الشهيرة من ألبانها. يقول (مانولي):
"يستحيل أن يغيب طبق السلاطة اليونانية عن موائد اليونانيين.." ثم تمسح وجهه ابتسامة دافئة، وإن كانت تشوبها ملامة مخفية حزينة، ويستطرد: "لولا هذه الجبنة لأصبحت زيارة ابنتيَّ اللتين تعملان في أثينا، مقتصرة على أعياد الميلاد فقط! ".

لكن سريعا ما يشرق وجهه وهو يتحدث عما يراه متعة البساطة والخلق والابتكار:
-"(الفيتا) التي تصنعها زوجتي (إيريني) لا مثيل لها في اليونان كلها..". كذلك يقول وهو يقطعها إلى مربعات مناسبة قبل أن يضيف إليها البصل، والطماطم والخيار المقطع بدون تساو، ثم يغمر الطبق بزيت الزيتون ويرش الزعتر البري فوقها، وفيما تأتي (إيريني) الهادئة برغيف "حلوزي" ساخن من فرنها تسبقه رائحته الشهية وتضعه أمامنا كقبة ذهبية، ينظر نحوى متفاخرا ويقول:
-"هذه هي السلاطة اليونانية الحقيقة وليس تلك التي يقدمها كريستو إلى زبائنة نصف المخمورين، ثم إنها هي الأفضل في اليونان كلها، فجميع مكونتها زرعتها أنا و (إيريني)، والزيت عصرناها من تلك الزيتونة التي تعود إلى جدي الذي لا أعرف اسمه. أما هذا النبيذ فلا أحد يصنع مثله في أنوفيتا سوانا". هكذا تتواصل حكايته، وهكذا أمضي سهرتي مأخوذا بحكمته وأسلوب حياته.

إن ذهبت إلى خالكيدا أعود إليه بأخطبوط، وهو أفضل ما يحب من البحر، يشوى ذراعا منه، ثم يقدد البقة، ويعد منها أطباقا لم أذق مثلها في حياتي، وعندما يعلن قائلا : "إنه كان اخطبوط مكتنز طازج، لابد أنهم اصطادوه من سواحل (كريت) ". أعرف أن زيارة لـ (خالكيدا) صارت ضرورية.

أصبحت أجد في رفقة "مانولي" هذا الفيلسوف، حالة من التناغم والهدوء النفسي، وهو يحدثني عن أشيائه الصغيرة الكبيرة، وصرت أتعلم منه جديدا كل يوم.

في طريق عودتنا ذات يوم من سوق المدينة تعلمت درسا، لا أبالغ إن قلت لكم أنني أسست عليه علاقتي بالناس بمختلف قناعاتهم، وهو بالتأكيد ما جعلني، حتى الآن، لم أفقد إنسانيتي أو أشوهها.

ذات يوم في طريق عودتنا من سوق المدينة، مررنا على محل، ليبتاع منه تبغا لغليونه. صاحب هذا المحل رجل خلقه الله بتكشيرة مرعبة، وفوقها قبح في الشكل والسلوك، ولقد حاولت أكثر من مرة أن أقترب منه، فمحله قريب من سكني، ويبيع التبغ الذي أدخنه. أحيانا ينفي أن لديه ما أطلبه وأنا أراه أمامي، ويتجاهلني إن أخبرته أن طلبي هناك على الرف، وكثيرا ما تجاهل تحيتي الصباحية أو المسائية له.

عندما وقفنا أمامه حياه "مانولي " بابتسامة واسعة، ولكنه لم يهتم، بل وقف مباشرة وأحضر له تبغه، فيما استمر (مانولي) يقول له أشياء تبدو أنها مبهجة، وشكره في أدب جم، وغادرنا المحل. قلت له :
"سخيف هذا الرجل، لم يرد حتى على تحيتك، لا التي قلتها له في قدومنا ولا التي قلتها في مغادرتنا. هذا سلوكه معي أنا أيضا.." اجابني متبسما: " أعرف ذلك. هذا ليس معي أو معك ولكن مع القرية كلها.." قاطعته: "وما الذي يرغمك على التعامل معه؟ هناك محلات أخرى، أليس كذلك؟ ثم لماذا تعامله بهذا الأدب وهو لا يستحقه؟".

توقف (مانولي) والتفت نحوي، وأجابني بثقة، وصرامة: "ولما أتعامل معه بقناعته؟ لماذا أسمح له أن يقرر هو الطريقة التي تناسبه ولا تناسبني أنا " ثم استطرد : "الإنسان الحقيقي ينبغي أن يتصرف مع الناس وفق قناعته هو! ولا أن يستجيب لأفعالهم، عندها تكون أنت خليفة الله في معاملاتك معهم.. ستكون أنت الفاعل، ولست المستجيب لما يريدونه هم!".

وظللنا طوال تلك الأمسية نتحدث عن الموضوع نفسه، وعندما استرجعت ما تحدثنا عنه فيما بعد أستطيع أن أقول أن الإنسان الذي يرد على قلة الأدب والفظاظة بمثلها هو في الواقع ليس مسيطرا على نفسه. وأن تعاليم معظم الأديان التي تدعو إلى الرد على الشر بالخير هي في الحقيقة ليست مجرد عمل أخلاقي فقط ولكنها أيضا بلسم للصحة النفسية.

صديقي "مانولي " فيلسوف حقيقي، وما زالت ذكرياتي معه، وإن مر عليها قرابة نصف قرن، حاضرة أمامي ماثلة، كلما تذكرت نماذج ما زالت وستظل كما هي فظة، ولكن الله وضعها أمامنا حتى لا ننجرف من علو مكانة خلافته، نحو من اختار لها دونيتها.