Atwasat

الشعبوية

رافد علي الجمعة 24 يوليو 2020, 02:40 صباحا
رافد علي

رافد علي
يظهر السياق التاريخي للشعبوية أنها ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر بروسيا القيصرية على يد مجموعة من المثقفين، وظهرت في الولايات المتحدة الأميركية على يد بسطاء الناس من فلاحين وحرفيين، تأسس على صيحاتهم حزب الشعب، كما يرى لورنس جودوايان، وعرفت فرنسا الشعبوية مع الجنرال بولانجر«1»، وكانت للشعبوية جولات عدة في أميركا اللاتينية مع زعماء السياسة أصحاب التوجهات اليسارية، ووصفت خطابات الناصرية في الغرب بأنها ذات توجهات شعبوية.
تتجلى الشعبوية اليوم فيما يعرف بالشعبوية الإلكترونية التي يطلق عليها اسم «Telepopulisme» التي تتبناها السلفية كما يرى بعض المختصين. إبراهيم أولتيت يرجع الشعبوية السلفية إلى وجود حالة «افتراق ثقافي» بين شرائح المجتمع المنخرطة في العصرنة والأخرى التي تظل ملتصقةً بقيم الأمس، مما يدفع الطرف المحافظ بإذاعة وسائل دفاعية «2» تحت شعارات دينية ومقدسة باعتبارها الأصل والبديل بذات اللحظة في محاولة مكثفة لكسب عاطفة المؤمن بنهج الابتزاز الأخلاقي أمام الله!

ليس هنالك تعريف متفق عليه بخصوص الشعبوية رغم أنها مُعاشه بشكل متزايد في عالم اليوم، لكن مع تتبع الخطاب الشعبوي بشكل عام يمكن حصر بعض الملامح لها. الرئيسان الأميركي ترامب والبرازيلي بولسورنارو يعتبران من نجوم الشعبوية في العالم اليوم بسبب خطابهما التعبوي الموجه لفئة معينة بمجتمعهما تستهدف الآخر، رافعةً شعار «نحن أولا» في مواجهة الغير. كما أن الشعوبية يمكن ملاحظتها عندما تتجلى كتدبير سياسي بقصد الحصول على الدعم «ضد خوف أو خطر محدق»، كما هو في حالة تعاطي الأحزاب اليمينية المتطرفة مع ظاهرة الإسلاموفوبيا بأوروبا، أو حين فترة حكم بوش الابن، أو كما حصل أثناء الدعوة للاستفتاء حول «بريكست»، حينما تعالت الأصوات التي تصور بريطانيا فريسة سهلة لأبناء القارة الطامعين في الجزيرة المستقلة جغرافيا عن اليابسة الأوروبية، واتباع نهج التخويف من اللاجئ القادم من هناك. توم واتسون يتتبع الشعبوية باعتبارها حالة احتجاج سياسي من المنهوبين ضد الناهب، كما عايشنا هذا في الخطابات الشافيزية بفنزويلا. الباحث الألماني يان فيرنر مولر يناقش الشعبوية على ضوء فكرة أنها صعود الجماهير للسياسة، من خلال منحها الدعم الشعبي للسياسي، إذ تبدو الشعبوية في هذه الممارسة أمرا ديمقراطيا على السطح، في حين أن صميم حالها تعبير عن حالة تناقض مع الديمقراطية، لأن الشعبويين معادون للتعدد بشكل مبدئي حسب ما يقدمه مولر في كتابه «ما الشعبوية».

أمام هذه الوضعية التي تستقرئ الشعبوية أكثر من أن تضع تعريفا لها بالمجال الأكاديمي على الأقل، حاول البعض تحديد خصائص الشعبوية لرسم ملامح عامة لها، لكن الأكثر وضوحا هو أن الشعبوية كظاهرة ترجع في ظهورها المعاصر لانسداد الأسلوب الديمقراطي المعاصر، باعتبار أن الأحزاب السياسية في العالم الحر تكرر نفسها مع كل انتخابات تقام، بما يفسر حالة العزوف عن ممارسة حق التصويت كما في فرنسا وبريطانيا علي سبيل المثال. في العام 1995 أجري بفرنسا استقصاء للرأي العام -إثر صعود اليمين المتطرف للجولة الثانية في انتخابات الرئاسة- بقصد ضبط مؤشر للشعوبية حسب ما يقول جيرارد جروبي في مؤلفه «مؤشر للشعبوية» 3، من خلال طرح أسئلة تنصب على الفساد السياسي والهجرة والامتيازات الممنوحة للاجئ، وإن كان اليمين واليسار لا يفهمان مشاكل الناس، وإفلاس النخب، والعدالة كيل بمكيالين، وهل اليمين واليسار دائما بذات الحال؟! ومدى الحاجة إلى زعيم وطني يقيم النظام والحكم؟! جيرارد اعتبر الإجابة عن هذه الأسئلة بالإيجاب تفيد بمدى انتشار الشعبوية بالبلاد التي كانت تعيش الصدمة بصعود لوبين زعيم الجبهة الوطنية المتطرفة لمنافسة شيراك علي قصر الإليزيه.
في عالمنا العربي يرى الدكتور إدريس هاني في دراسته «علماء المغرب بين الأمس واليوم» المنشورة بـ«وجهة نظر» العدد 46، أن الشعبوية السلفية توغل في التبسيط وتعادي النخب من خلال حنين رومانسي لا يخلو من الأسطرة. ويُرجع إدريس الشعبوية في تاريخنا العربي إلى خطاب الوزير عبدالله بن عياش وزير الخليفة المنصور، الذي شيطن فيه المشتغلين بالفلسفة، وبرر الإقصاء والنفي وحرق الكتب في حقهم. اليوم بليبيا نجد من يتحدثون عن التهميش لمناطقهم و«التعنصر» ضد أهلهم و«جهاتهم»، يتناسون ويلات أهل الجنوب المنهك والمنسي بما يجعل خطابهم هذا يقع تحت فئة الشعبويات، التي تنتهج التخويف بالتضحيات المجانية لأجل «الآخر». أو «الناهب» أو «المستفيد»، بل إن هكذا خطاب حينما يكون صادرا عن تيار سياسي منتهجا «نحن أولا» في سبيل حوز التأييد السياسي فإنه يظل خطابا شعبويا صرفا رغم مدى تعقيدات ليبيا والصخيرات والفوضى وحالة الحروب، لأنه ببساطة شديدة يبقى خطابا مبنيا على كسب التأييد على أساس عاطفي أكثر من العقلانية، وهو حجر أساس في ماهية الشعبوية وخطابها.

الألماني مولر بذات كتابه المذكور آنفا يعتبر أن الليبرالية الجديدة تُقصي الشعبوية على أساس أخلاقي، كون الشعبوية لا تؤمن بالتعدد، لكنه يحث الليبرالي الجديد على أن يكون أكثر رصانة وتعقلا، ويناقش الشعبوي لأجل الاقتراب من الحقائق بشكل أكبر بما يسهم في صيانة الديمقراطية وللوقوف على جدية المخاوف والشكوك المشاعة شعبويا.
يا بلادنا التي تراقص الشعبويات بكل ملامحها ونتناسى فيها الحوار لملامسة حقائقنا التائهة في فوضانا وأحقادنا وحروبنا، وبشراهة أكثر للصدام ولآجال لا زالت تبدو مفتوحة؛ متى يقوم فينا العقل؟!

الهوامش:
1- GeorgesBoulanger Ernest 1837-189 عُين وزيرا للحربية العام 1885 وأُقصي من منصبه 1889، أسهم في إثارة مظاهرات شعبية حاشدة في باريس في 1886 و1887، فاز في انتخابات باريس بفضل قدرته على إثارة الجماهير.
2- إبراهيم أولتيت، «المتغير والثابت في الشعبوية»، كلية القانون، جامعة الرباط.
3- جيرارد جروبي في مؤلفه «مؤشر للشعبوية
Gérard Grunbe, «La mesure du populisme , sur quelques questions de méthode», in Mots, nº (37), juin 1998 , p. 125.