Atwasat

خريطة طريق لبناء ليبيا الحديثة «2»

محمد عبد العزيز الفقهي الجمعة 24 يوليو 2020, 02:36 صباحا
محمد عبد العزيز الفقهي

2. حل مشكل الدولة
تاريخيا، باعتبار مساحة الدولة الليبية الشاسعة، وندرة المياه، لم يتسنَّ أن تكون بها دولة مركزية قوية، كما هو الحال في الجارتين مصر وتونس. مما جعل ليبيا غالبا ولاية تابعة للدول المركزية المجاورة ولم تكن حاضرة لها. وهذا الذي جعل الفاطميين يحولون مركز دولتهم من المهدية إلى القاهرة إبان الخليفة الرابع، المعز لدين لله الفاطمي، متخطيا ليبيا، مع أن الفكرة كانت واردة لدى بلاط الحكم الفاطمي. حتى الحركة السنوسية المكونة لليبيا الحديثة لم تكن حركة مسلحة مركزية، كما في حالة الحركة الوهابية المكونة للمملكة السعودية الثالثة، وإنما حركة غير مسلحة، ولا مركزية.

وبالإشارة لماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني، هناك ثلاثة أنواع للشرعية المكونة للدول. الشرعية التقليدية، كما في حالة الممالك، والشرعية الكاريزمية، كما في حالة الدول الثورية القائمة على حكم الفرد القوي، والشرعية العقلانية أو القانونية كما في حالة الديمقراطيات الراسخة. تقسيم فيبر للشرعية هو تقسيم باعتبار الطبيعة أو مادتها، إما باعتبار طريقة تكوين شرعية الدول، فشرعية الدول في نظرنا إما شرعية مصالحة وإما شرعية مغالبة. والشرعية الكاريزمية غالبا ما تكون شرعية مغالبة، أما القانونية والتقليدية فغالبا شرعية مصالحة. والدول التي تبنى على شرعية المغالبة يتأخر فيها التحول الديمقراطي أو ينعدم، كما في حالة جمهورية الصين الحالية، الاتحاد الروسي وكوريا الشمالية. أما الدول القائمة على شرعية المصالحة فهي الأسرع للتحول الديمقراطي، ولا جرم أن أقدم ديمقراطيتين حديثتين هما الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة. فالجمهورية الأميركية أسست على أساس المصالحة* بين الولايات المنضمة للاتحاد. وفي حالة المملكة المتحدة بنيت على أساس المصالحة بين التاج، والبرلمان بعد صراع طويل منذ 1215 ووثيقة الماغنا كارتا.

وليبيا الحديثة أسسها الملك إدريس على شرعية المصالحة، غير أنها لم تترجم إلى دولة فاعلة، لغياب الرؤية عند الملك إدريس وسياسته الخارجية الأصغر مما ينبغي. وأخطاء التأسيس للملك إدريس خلقت فراغا سياسيا عبَّد الطريق للتغيير السياسي الذي تلاه. ومعمر القذافي بكاريزمته وقدرته على القيادة غير التقليدية، عالج غياب الرؤية والسياسة الخارجية عند إدريس، بيد أن سياسته الخارجية كانت أكبر مما ينبغي وغير مستقرة، ونسخ شرعية المصالحة التي أسست عليها ليبيا بشرعية المغالبة. وكما أن الذي أسقط إدريس رهطه وسياسته الخارجية الغائبة، الذي أسقط معمر القذافي تجبره وسياسته الداخلية السائبة، التي لم تخلق تنمية حقيقية للناس بالمقارنة بالموارد وعدد السكان. كل ذلكم جعل من خروج فبراير مسألة حتمية بمؤامرة أو بدونها.

وفيما يخص ما يسمى بالربيع العربي هما ربيعان، جزء منه تراكمات لمظالم وحقوق مشروعة، وجزء منه مؤامرة اعتلت صهوة مطالب الناس نظرا لطبيعة العلاقات الدولية وكثافة التدخل الأجنبي في زماننا باعتبار منطقتنا الإستراتيجية، وسياسة معمر الخارجية التي لم تبق له صاحبا. فالربيع العربي، لا هو خروج بريء محض، ولا هو مؤامرة محضة، وإنما منزلة بين المنزلتين، وأفول سياسي طبيعي للنظام العربي ما بعد الاستقلال، وإيذان بنظام عربي جديد. ومن ثم، الذي يجب أن يستوعبه السبتمبريون، أن إصرار معمر القذافي على المغالبة وما صاحبها من مظالم، هو الذي أدى إلى فبراير، بغض النظر عما إن كانت مؤامرة أم لا. فتثبيت دعوى المؤامرة على فبراير، يلغي دعوى سلطة الشعب على سبتمبر. فلو كان الشعب يحكم نفسه بنفسه لما خرج على نفسه بمؤامرة أو بدونها. ودرس سبتمبر أن السيادة بلا ديمقراطية لا تدوم، ودرس فبراير أن ديمقراطية بلا سيادة لا تقوم. ففبراير هي مخرجات تراكمية لسبتمبر.

خريطة طريق لبناء ليبيا الحديثة «حول الانتقال الديمقراطي: فلسفة لدولة ليبية حديثة» (1)

فلو بنى معمر القذافي دولته على المصالحة الدستورية استكمالا وتقوية لشرعية المصالحة التي أسسها إدريس، وكون ديمقراطية حقيقية لا صورية لما كانت فبراير. ولو أن فبراير أسست الدولة على المصالحة الدستورية نسخا لشرعية المغالبة التي سنها معمر، لما استمرت الفوضى والحرب الأهلية، ولما تمزق النسيج الاجتماعي، ولما كشطت السيادة.

ومن ثم، السياق التاريخي السالف الذكر يؤكد أن الحجر الأسود المفقود للدولة الليبية هو شرعية المصالحة لا المغالبة. وأعني المصالحة الدستورية، أي عقد اجتماعي بين الجماعات الاعتبارية الراهنة، وهي المصالحة الرأسية السياسية، بخلاف المصالحة الأفقية الاجتماعية بين الأفراد والقبائل.. فالعقد الاجتماعي في نظرنا كمصالحة دستورية في سياق تاريخي، يبرم بين جماعات اعتبارية كما بينت في كتابي «الإمام: رسالة في السياسة، المنشور 2019، بدار النخبة، القاهرة»، وليس بين أفراد كما في موقف هوبز، روسو ولوك. فنظرية المفكرين السابقين متخيلة وليست واقعية. فلو أخذنا سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام مثالا، دولته أسست على شرعية المصالحة بين الأوس والخزرج واليهود، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. والجماعات الاعتبارية في الحالة الليبية هي: جماعة سبتمبر، وجماعة فبراير اليمين، وجماعة فبراير اليسار. وذلك بالاستفتاء على ميثاق وطني يعالج نقاط الخلاف بين الجماعات المذكورة، وتتمة المؤاخاة بينهم حتى تتكون الدولة على أساس متين، لا على ضلع أعوج. فالتعريف الفلسفي للدولة هي كيان جامع لهوية منسجمة بالإشارة للفيلسوف الألماني هيغل. ما لم يتحقق انسجام بالحد الأدنى فلن تتكون دولة، ولا وجود لديمقراطية في غياب الدولة. ولا وجود لديمقراطية في غياب جماعة وطنية منسجمة، وقابلية التنازل بين القوى السياسية، كما يشير أغلب علماء الانتقال الديمقراطي ومن أبرزهم العالم الأميركي رستو. وكل ذلكم يتلخص في المصالحة الدستورية والميثاق الوطني الذي نحن بصدده.

والخلاف الرئيس بين الجماعات الاعتبارية في ليبيا، وفي كل قطر عربي حقيقة هو الخلاف حول التداول على السلطة، وإدارة السيادة دون تسييس أو تدويل المتعلقتين بهوية الحكم. غياب هكذا ميثاق وطني، الذي لا تحتويه دساتير عادة، هو الذي جعل دولنا دولة طائفية ومحاصصة، لا دولة أمة ومواطنة. فكل دولة عربية مرشحة لمصير ليبيا لو انتشر السلاح وحصل فراغ في السلطة. وكل دولة لم تحل فيها هوية الحكم، معرضة لكثرة الانقلابات العسكرية كما هو الحال في ما يسمى بالعالم الثالث عموما، ودار الإسلام خصوصا.

* معروف أن توحيد أميركا تم بالقوة عقب حرب أهلية. «المحرر».