Atwasat

حكاية بنهاية سعيدة!

جمعة بوكليب الخميس 23 يوليو 2020, 03:17 صباحا
جمعة بوكليب

لكل حكاية بداية ووسط ونهاية. هناك أغلبية من الناس يرون أن أفضل أجزاء الحكاية نهايتها. وهو رأي لا أختلف معه كثيرًا، لاعتقادي أن الحكاية وحدة واحدة. وأفضل الحكايات عندي ما كانت بنهايات مفتوحة. وإن لم تكن كذلك، فعلى الأقل بنهايات سعيدة، خاصة في زمن لم تعد فيه سعادة إلا في الحكايات. ثمة حكايات تبدأ ولا تصل إلى نهاية، رغم تقادم العهود، مثل حكاية كنجستون على نهر التيمز، في جنوب غرب لندن.

قررت زيارتها، أخيرًا، كإشهار عن انتهاء بياتي الصحّي، وليس عزلي الحجري. كان نهارا صيفيا، ولم يكن مشمسا. السماء، في ذلك اليوم، حجبتها غيوم ثقيلة، وقفت حاجزا بينها وبين الزحام البشري الذي كان، بشكل ملحوظ، يموج في شوارعها وساحاتها، رغما عن تهديدات الوباء الفيروسي. وكنتُ، أنا، قد وصلتها على متن حافلة عامة، قادما من وريستر بارك، بوجه غطت ملامحه كمامةٌ، ولم تُبق مكشوفا منه للعيون سوى عينين هرمتين، تدوران في محجريهما كعدستين مغبشتين، على أمل التقاط عينين صديقتين ومرحبتين. صافحت النهر بحرارة عائد إلى أهله بعد غياب. وبدأت التسكع في شوارعها وساحاتها، ولم أحس برغبة لزيارة أسواقها المغلقة. قادتني قدماي إلى مكان يتموضع فيه حجر قديم، مسيّج بقضبان حديدية. يقال إن ذاك الحجر، تحديدًا، منح كنجستون اسمها، الذي يعني حرفيًّا «حجر الملوك». على ذلك الحجر، يقول المؤرخون، كان يتم تتويج الملوك السكسونيين في الماضي البعيد. كانوا يأتون بالمرشح لتولي العرش، ويجلسونه فوق الحجر، ويضعون على رأسه التاج. وحين تنتهي الطقوس، ينهض من فوقه مغادرًا، وقد صارت رغباته أوامر لمن حوله من رجال البطانة، ولكل الشعب.

حكايات الملوك في بريطانيا ذات جذور عميقة، وبتاريخ طويل، جرت في مساربه ومسالكه دماء كثيرة،. وما زال إلى يومنا هذا مبعث اهتمام وإعجاب الكثيرين، ومثار دهشتهم. والزائر إلى ذلك النصب التاريخي، لا يمكنه بأي حال الإفلات من التفكير فيما كان يحدث من أمور، وكيف تطور بها الحال، حتى صارت الملكية في القلب من النسيج البريطاني سياسيًّا واجتماعيًّا، إلى درجة أنهم لدى نهاية سلالة مالكة وعدم وجود وريث، كانوا يضطرون لاستيراد ملك من دولة مجاورة. العائلة المالكة الحالية من أصول سلالة ملكية ألمانية. وإذا كان الزائر ليبيًّا مثلي، فلا بد أن الوقفة أمام ذلك الحجر سوف تحيله على فترة تاريخية عاشتها ليبيا تحت نظام ملكي، استمر لأقل من عقدين زمنيين، ثم سقط تحت أول ضربة تلقاها، وتعرّض رجاله للنفي وللسجن، وتم محو تلك الفترة من كتب التاريخ المدرسية، وكأنها لم توجد. ولم يعد أحد يجرؤ على ذكرها خشية من سوء العاقبة. على عكس الملكية في الغرب الأوروبي أو في المغرب مثلًا، فإن الملكية الليبية لا تعدو أن تكون سوى نبتة طارئة، بلا جذور، ولا تختلف عن حكاية قصيرة وبنهاية محزنة. وما ينطبق عليها يطال النظام الجمهوري أيضًا الذي جاء بعدها. الحكاية التي بدأت مشوارها بعد انتهاء فترة الحكم الملكي، أكثر إثارة للدهشة، لأن قائد النظام العسكري، انتقل، بين ليلة وضحاها، من مؤسس لعصر الجماهير، ليصبح، بقدرة الخزينة العامة الليبية، ملكًا لملوك أفريقيا، ومن دون نأمة خجل أو حياء، أو تفسير منطقي حتى لأنصاره. وشاهد الليبيون، والعالم أجمع، مراسم وطقوس تتويج الزعيم الثائر على الملكية إلى ملك ملوك تنقل مباشرة على شاشات القنوات الفضائية. ذلك المشهد أعاد للأذهان مشهدًا أكثر سوريالية أو مأساوية لا فرق، حدث في جمهورية أفريقيا الوسطي في السبعينات من القرن الماضي، حين قرر رئيسها الجنرال جان بيدل بوكاسا تتويج نفسه إمبراطورًا!!! بوكاسا دفع تكاليف التتويج من الأموال التي دفعها له العقيد معمر القذافي، من الخزينة الليبية. لقاء إشهار إسلامه في لقاء جمعهما في طرابلس، ويا سعدك يا فاعل الخير!!

حكاية بوكاسا وصلت إلى نهايتها المتوقعة سريعًا، وبالطبع لا مكان فيها لفرح أو سعادة. وأعقبه بعد ذلك بسنوات نهاية حكاية ملك ملوك أفريقيا ومؤسس عصر الجماهير، بشكل تراجيدي، ومنقول مباشرة على شاشات التلفزيون.

حكايات الملوك، منذ قديم الزمان، تتشابه وتختلف، وفي أغلبها لا تنتهي بنهايات سعيدة، أو مفتوحة. وهذا، بطبيعة الحال، يقودنا إلى إخوتنا من الليبيين المطالبين، هذه الأيام، بعودة الملكية إلى ليبيا، في محاولة منهم لإيجاد حل للخروج من الأزمة الخانقة حول الصراع على السلطة. فهم، من دون شك، يعرفون جيدًا أن لا جذور للملكية في ليبيا، وهذا ربما يفسر السرعة التي اختفت بها. ويعلمون كذلك أن مسألة تقرير الخروج بالبلاد من محنة النزاع إلى ضفة السلام والاستقرار، لا تقرر في ليبيا، ولا يقررها ليبيون، وبالتأكيد، فإن عودة النظام الملكي لا مكان له على الأجندة، محليًّا أو دوليًّا. وهذا يعني أن الوصول بالحكاية الليبية إلى طريق يقود إلى نهاية سعيدة، أو مفتوحة لم تتضح معالمه بعد.