Atwasat

حصاد قانوني...

جازية شعيتير الأحد 19 يوليو 2020, 04:13 مساء
جازية شعيتير

في نهايات سبتمبر من العام المنصرم قررت الجمعية الوطنية للآباء المؤسسين تكريمه، من خلال ندوة بعنوان: "نجيب الحصادي: سيرة باحث"، وقد عرضت فيها أعمال عن حصاده المعرفي المنوع في: اللغة، والمجتمع، والفلسفة، بحقولها العديدة، خصوصا المنطق، ونظرية المعرفة، وفلسفة العلوم، والأخلاق. وقد نقص تلك الندوة عمل عن حصاده القانوني كان يفترض أن أقدمه، وقدر الله أن يؤجِّل إلى يومنا هذا. ولا ضير في ذلك فهو حصاد طيب يؤتي أكله كل حين...

يقول رئيس قسم الفلسفة جامعة أسيوط [... يعد الحصادي أعظم المفكرين الليبيين المتخصصين في فلسفة العلوم في النصف الثاني من القرن العشرين ... وهو من المؤمنين بضرورة إنزال الفلسفة من عزلتها إلى الشارع، والصعود بالشارع إلى عالم الأفكار... وقد جعل الثقافة والفكر موضوعا للنقاش العام ...]، ولعل هذه السجايا الفكرية، أساس العلاقة بين الحصادي والقانون.

يؤكد الفيلسوف أن حصاده القانوني لم ينجم عن دراسة أكاديمية للقانون، وأنه لم يقرأ، حتى الآن، كتابا واحدا في أساسيات القانون، وأن مشواره القانوني بدأ أساسا مع مركز البحوث والاستشارات ومركز دراسات القانون والمجتمع، بعيد فبراير2011، وإن كنا نرصد له حصاداً مميزاً قبل ذلك. ولعل ما ربطه بمركز دراسات القانون والمجتمع اتحادهما في الوسيلة والغاية؛ حيث يتفق الحصادي مع أهداف المركز في أهمية دراسة المجتمع وميوله وثقافته، لتشكيل قاعدة معرفية مهمة للبحث عن الأسباب الكامنة وراء عدم نفاذ القوانين في داخل المجتمع من جهة، ولسن قوانين مناسبة من جهة أخرى، كما يتفق مع المركز حول أهمية تحويل القانون إلى ثقافة اجتماعية حتى لا يظل حبرا على ورق.

• القانون الطبي
بدأ حصاد القانون الطبي مبكراً في 2005، حينما قرر الحصادي أن يتساءل حول المآزق الأخلاقية التي تجد الإنسانية نفسها فيها؛ حين يستجدى المريض تخليصه من حياته تخفيفاً لآلامه، فكان بحثه الموسوم بعنوان "قتل المرحمة"، وقد نشر في مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الإمارات العربية المتحدة.
وفي عام 2010 لاحظ أن القوانين والتشريعات النافذة في ثقافتنا لا تستنفد إلا قدرا يسيرا مما قد يواجه المشتغلين بالرعاية الصحية من مواقف ومآزق أخلاقية في أثناء مزاولتهم مهنة الطب، وقد أضحت أكثر تعقيداً في العقود الأخيرة، بعد عمليات النقل المكثفة لأحدث التقنيات الطبية المستخدمة في الغرب، بما صاحب ذلك من جلب لمشاكل ومسائل أخلاقية وقانونية جديدة على مجتمعنا، فقام بإهداء طلاب الكليات القانونية، وواضعي التشريعات المنظمة لمزاولة المهن الطبية ترجمة لكتاب "القانون الطبي والأخلاق" للمؤلف بوني ف . فرمجن.

• القانون الجنائي
وكان الحصادي قد اهتم بفلسفة القانون الجنائي بوجه خاص؛ ففي 2009 لفتت انتباهه العقوبة التي تشغل بال الكثيرين من فقهاء السياسة الجنائية، وكل المشتغلين بالجانب الحقوقي؛ عقوبة الإعدام، سواء كان شنقاً أم رمياً بالرصاص، وهي أقسى العقوبات وأقصاها، وهي تفتقد لأهداف العقوبة من حضّ للجاني على عدم ارتكاب جريرته مرة أخرى وعناية بتأهيله وإصلاحه. وقد ضمّن الحصادي ذلك في بحث بعنوان "في الجزاء الأعظم"، نشر في المجلة العربية للعلوم الإنسانية، بالكويت.
غير أن مشهد الإعدام ظل ماثلا أمام ناظريه، ما دفعه للبحث في لحظة زمنية فارقة من عمر المحكوم عليه، وهي لحظة [توقيت تنفيذ عقوبة الإعدام]، حيث رصد فيها شجون وأشجان المحكوم عليه [بين سوانح التراخي وعذابات الانتظار]، وقد قدم العمل لمؤتمر الفلسفة وحقوق الإنسان، جامعة القاهرة 2010.
في 2016 اوقد فيلسوفنا شعلة "حملة احترام القانون"، وحث عليها نشطاء المجتمع المدني، وتعاون بشأنها مع كلية القانون جامعة بنغازي، كما ساعد على الترويج لها في وسائل الإعلام الليبية. وهي حملة غايتها إقناع المواطن بتطبيق القانون على الرغم من ضعف السلطات المنوط بها فرض تطبيقه. وجعل من وضع المواطن شارة بيضاء، حول المعصم أو على حقيبة اليد أو فوق المكتب أو في السيارة، مؤشر قبول بالانضمام للحملة. جل التزامات المواطن في تلك الحملة صاغها الحصادي على هيئة تعهد بعدم ارتكاب جرائم من قبيل: الرشوة، والتعدي على ممتلكات الآخرين بما في ذلك ممتلكات الدولة، واستغلال الوظيفة للحصول على منافع غير مستحقة، واحتكار السلع، والمتاجرة في المواد الممنوعة، والعبث بالمقدرات البيئية، وإهدار موارد البلاد، واستخدام العنف ضد الأشخاص، والغش في الامتحانات، وقيادة المركبات الآلية بشكل يعرض حياة الآخرين للخطر، والتزوير، وشهادة الزور.

• القانون الدستوري
باكورة الحصاد الدستوري كانت في 2013؛ حينما اختاره مركز البحوث والاستشارات من أعضاء الفريق البحثي لمشروع "المسح الوطني الشامل حول الدستور" الهادف لاستكشاف آراء الليبيين حول الجوانب المختلفة للدستور وفق منهجية علمية منضبطة، بحيث تتمكن الهيأة التأسيسية من التعرف على تلك الآراء والإفادة منها في صياغة مسودة الدستور.

توالى موسم الحصاد الدستوري في 2014 ؛ من خلال عمل مشترك صحبة أستاذ العلوم السياسية زاهي المغيربي، وأستاذ القانون الخاص سليمان إبراهيم. وكان العمل عبارة عن ترجمة "لمشروع الدساتير المقارن"، من إعداد السيد زكاري إلكنز وآخرين، حيث تمت المقارنة بين 184 دستورا، عملا كان ومازال مفيداً لكل المهتمين بالشأن الدستوري، كما شكل آنذاك هدية قيمة لأعضاء الهيأة التأسيسية لصياغة الدستور في ليبيا.

ولحرصه على تسليم تلك الهدية لأعضاء التأسيسية، فقد تواصل مع رئيسها وبعض أعضائها وحرص على متابعة أخبارها. وما إن أصدرت الهيأة المسودة الأخيرة في 2017، حتى قرر الحصادي، من خلال مركز دراسات القانون والمجتمع، أن يقوم بعملية "معايرة لمشروع الدستور" بالصحبة المتخصصة ذاتها: المغيربي وإبراهيم، إضافة لكل من: أستاذة القانون الدولي هالة الأطرش، وأستاذة القانون الجنائي جازية شعيتير. وقد قام الحصادي باقتراح منهجية تلك المعايرة؛ بحيث أتاح الحديث للأرقام بدلا من الكلمات لضمان الموضوعية والحياد، ثم ترجم الأرقام إلى عبارات تقويمية. وقد امّنت الدراسة بيانات مفصلة تعين على تعديل المشروع في حال عرض للتعديل.

غير أن "صابة" الحصاد الدستوري كانت في دراسة معمقة لحقت بالمعايرة وهي تعليق على المادة الدستورية التي تحدد "مكانة الشريعة في التشريع" في مسودة مشروع الدستور الليبي؛ ففي تلك الدراسة أستخدم المنطق والفلسفة ليناقش علماء الشريعة الإسلامية وفقهاء القانون الدستوري، وقد خلص إلى أهمية القيام بعمل مؤسسي لتحديد مقاصد خاصة تصاغ في شكل مبادئ قانونية تُستقرأ من قواعد قانونية أقل عمومية .

• القانون العدل انتقالي
يمكن تلمس الاهتمام بالعدالة الانتقالية لدى الحصادي منذ 2015، حيث قام بترجمة مميزة رفقة رفيقه المغيربي لمسح حول تقدير احتياجات ليبيا بشأن "عواقب التعذيب والعنف المنظم"، إعداد مركز البحوث والاستشارات ومؤسسة دغني؛ ففي ذلك العمل عرضت كثير من قضايا العدالة الانتقالية، كالصراع المسلح، والنزوح، والقبض والحجز.

وآخر حصاده القانوني وإن لم يكن أخيرها 2018، حصاد ذهبي؛ لوفرته ولأهميته، حيث المساهمة في مشروع يعنى بدور القانون في المصالحة الوطنية من إعداد وتنفيذ مركز دراسات القانون والمجتمع وبالشراكة مع جامعة ليدن الهولندية. مشروع كبير، شواغله الرئيسة مهمة منها: الهوية الوطنية والعدالة الانتقالية، والحكم الوطني والحكم المحلي. وقد كان الحصادي في كل تلك الشواغل الخبير الحريص على أن يكون لكل شاغل تقرير متكامل ذا رؤية مستنيرة؛ مؤسسة على مدخلات ثقافية، تشكل البيئة الحاضنة لما يسود من توجهات وسلوكات. وتفضي إلى مخرجات إستراتيجية، سواء كانت مقترحات تشريعية أم تدابير تنفيذية.

كما أن الحصادي يكتب، على حائط صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، (جداريات سيبرانية) لا تخلو من التأصيل الفلسفي للقانون؛ فهو يرى أن القانون علم إنساني وتطبيقي معا، وأن وجود آراء مختلفة في القانون دليل على إنه لا يتكئ بما يكفي على الوقائع بما ينتج من فرضيات، منبها إلى الشوط الذي يلزم فقهاء القانون قطعه قبل أن تكون نظرياتهم جديرة بالثقة التي يضعونها فيها. كما يؤصل لأثر الباعث، على السلوك الإجرامي، في المسؤولية الجنائية. وله فلسفة خاصة بشأن علاقة الأمن بالحرية، وعلاقة العدل بالحق، كما نرصد له آراء كثيرة بشأن السياسة الجنائية في مواجهة اللصوص والفاسدين وغيرهم من المجرمين.

تكرس تجربة الحصادي مع القانون البعد التأصيلي للفلسفة، ومن ثم أهميتها، كونها تمكن صاحبها للولوج إلى عوالم غريبة عنه. ويظل إبداع الحصادي في المجال القانوني، وغيره من المجالات، عصيا على التفسير.
نأمل أن نجني حصاده عاماً بعد عام، كما نأمل أن يقرر الفلاحة في العقل القانوني لطلاب الدراسات العليا في قسم الفلسفة، والأقسام القانونية المختلفة؛ من خلال مقرر فلسفة القانون؛ تأليفاً وتدريساً.