Atwasat

غزو لاهاي

رافد علي الجمعة 17 يوليو 2020, 10:40 مساء
رافد علي

حديث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، الأربعاء الماضي، بأن البعثة الأممية في ليبيا «تعكف على بذل الجهود بهدف خفض التصعيد، بما في ذلك إنشاء منطقة منزوعة السلاح إن أمكن للتوصل إلى حل عبر الحوار وإنقاذ الأرواح»، حديثه لا يقف عند الرغبة في إنشاء منطقة منزوعة السلاح فقط، بل يتضمن الإشارة إلى إمكانية إنشاء مناطق آمنة للمدنيين، إذ يبدو ذلك من خلال الإطلاق في جملته «لإنقاد الأرواح»، وهذا الاستنتاج وليد ما جرت عليه العادة في عالم الصراعات المسلحة، فوفق القانون الدولي للمناطق منزوعة السلاح والمناطق الآمنة تتم إقامتها عبر الاتفاق بين الأطراف المتنازعة، «حوار» كما تنص اتفاقيات جنيف للعام 1949 والبروتوكولات المكملة لها للعام 1977.الاتفاقية وبروتوكولاتها تنص صراحة على مناطق طبية ومناطق محايدة «أو آمنة» ومناطق منزوعة السلاح. تجدر الإشارة إلى أن مصطلح ممرات آمنة الذي يتردد كثيرًا في الإعلام العالمي وخطابات الساسة اليوم هي من المصطلحات الجديدة نسبيًّا في القانون الدولي، كونها غير منصوص عليها في القانون الدولي الإنساني، ولا في فقه القانون الدولي العام قبل النصف الأخير من القرن الماضي، إلا أنها ومنذ سنوات أخذت تترسخ كتدبير دولي وضمن القانون الدولي الإنساني، باعتبارها أضحت تجد لها مكانًا في العرف والممارسة الدوليين «1».

يشترط لإقامة المناطق منزوعة السلاح اتفاق الأطراف المتنازعة -أو الرئيسة فيه- بحيث تتم إزالة أي صفة عسكرية عنها وعدم إقامة أي ترتيبات دفاعية عليها كإجراء احترازي ضد إمكانية اعتبارها هدفًا عسكريًّا، وأن تخضع لإدارة مدنية «2»، وعادة ما يتم إصدار قرار أممي بتشكيل قوات حفظ أمن دولية لمراقبة المنطقة معزولة السلاح، والتي تكون مسبوقة بإرسال لجنة تقصٍّ دولية ترفع تقريرها لمجلس الأمن والأمين العام على ضوئه تتم رسم ملامح المنطقة المنزوعة السلاح، وتحديد أسلوب مراقبتها والموافقة على الدول الراغبة في المشاركة في قوات القبعات الزرقاء كما تعرف إعلاميًّا «3».

قوات حفظ الأمن الدولية في فقه القانون الدولي يُختلف أكاديميًّا على سند عملها القانوني، وذلك لانعدام نص قانوني خاص وواضح بخصوصها، مما جعل رجال فقه القانون الدولي منقسمين حولها «4». فهناك فريق يعتقد أن الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة هو المرجعية القانونية الذي ينص على حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية، دون الإخلال بحقوق أطراف النزاع أو التدخل لحلحلته. في حين يعتقد فريق آخر أن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة هو السند الشرعي لعمل قوات القبعات الزرقاء، فالمادة 40 تمنح مجلس الأمن سلطة اتخاذ التدابير الموقتة لحل النزاعات في العالم. الدكتور بطرس غالي يجمع بين الرأيين، إذ يقول إن السند القانوني لقوات حفظ الأمن يستمد من الفصل السادس ونص «5».

في عموم الحال بالنسبة للأزمة الليبية الدامية اليوم تظل الأرضية القانونية لإقامة منطقة منزوعة السلاح، وإرسال قوات حفظ سلام، تبدو متوافرة، باعتبار أن البلاد لا زالت تحت رحمة الفصل السابع منذ صدور قرار مجلس الأمن رقم 1970 للعام 2011، وما يتبقى شكليًّا هو موافقة الأطراف التي لمح الأمين العام في خطابه آنف الذكر أعلاه بأن السيد حفتر يبدو موافقًا من خلال التحركات الجارية بوسط البلاد، إذ قال بذات الخطاب: «إن تحركات شهدتها الأوضاع السياسية في شرق ليبيا، تظهر تجدد التأييد لإيجاد حل سياسي»، فقوات حفظ الأمن الدولية تقع على عاتقها مهمة غير عسكرية هي محاولة فتح القنوات السياسية للوصول لحل سياسي، كما يوضح محمد جبار جدوع في بحثه المعنون بدور عمليات حفظ السلام الدولية في تسوية النزاعات المسلحة الداخلية.

من ضمن الأمور المقلقة لعمل قوات حفظ السلام من وجهة نظر قانونية بحتة هي الحصانة القانونية الدولية، التي بات أفراد وأطقم قوات حفظ الأمن الدولية يتمتعون بها ضد أي جرائم قد يرتكبونها في البلاد المضيفة -أو التي تشهد نزاعًا- حتى وإن كانت جرائم ضد الإنسانية. الأمثلة كثيرة وموثقة لهذه الحصانة، لما حصل مع جرائم اغتصاب لفتيات أفريقيات قاصرات في الكونغو العام 2004 وبجمهورية مالي 2013، وارتكاب جرائم قتل وإصابات لآخرين في جمهورية أفريقيا الوسطى العام 2014 من قبل عدد من أطقم وعسكر تلك القوات.
كانت هذه الحصانة القانونية قد منحت لقوات حفظ الأمن الدولية بضغط من الولايات المتحدة التي تخوفت على مواطنيها العاملين بتلك القوات إثر تعالي الأصوات بضرورة مقاضاة الفاعلين في هذه الجرائم، فأصدرت واشنطن قانونًا خاصًّا العام 2002، تأسيسًا على عدم 2-2 قبول واشنطن باختصاص محكمة لاهاي، وهو ما يعرف باسم قانون حماية الجنود الأميركيين ASPA، الذي يمنع واشنطن من إبداء أي تعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ويمنح الرئيس الأميركي كل الصلاحيات لتحرير جنوده وجنود الدول الحليفة والمتحالفة معه من قبضة المحكمة، حتى بات هذا القانون يعرف في الأوساط القانونية الدولية والإعلامية بـ«قانون غزو لاهاي» «6». هذه الحصانة القانونية منصوص عليها بالفقرة السادسة من قرار مجلس الأمن 1970 للعام 2011 والمتعلق بليبيا، والذي لا يزال ساري المفعول بكون أن قرارات الفصل السابع تستوجب قرارًا صريحًا من مجلس الأمن بوقف الإجراءات والتدابير الصادرة عنه، وهو ما لم يتم حتى التو. بل إن قرارات مجلس الأمن حول ليبيا بعد 2011 تذكر بأن تعمل وفق الفصل السابع، قرار مجلس الأمن 1973 كمثال أولي.

من المؤسف أن يستمر الصدام الليبي إلى هذه الدرجة من العداء والتمزق والولاءات الخارجية، لدرجة أن نفصل بيننا حدًّا جغرافيًّا فاصلًا تحت مراقبة دولية خشية من أي اندلاع صراع حربي جديد ومحتمل، لأن مسبباته تظل قائمة دائمًا. قوات القبعات الزرقاء لن تأتي بحل سحري لمشاكلنا التي نهرب من مواجهتها كليبيين عبر الخوض في الصدام الدامي، فكشمير واليونيفيل بجنوب لبنان كأزمات على سبيل المثال تشرف عليها القبعات الزرق ولا زالتا لم تحلا لتعنت أطرافها أمام كل الحلول وعروض التسويات. وما يزيد ويربك الحال لدينا هو الحصانة القانونية لأعضاء طواقم قوات حفظ السلام، التي ستزيد من حدة نظرة الناس ببلادنا لهذه القوات التي لا زالت القرارات الأممية المتعلقة بليبيا تمنحها الحصانة بشكل مفتوح وصريح، مدفوعًا بثمالة القوة وجبروت البطش.

الهوامش:

1- International human rights & humanitarian law:Treaties, cases and analysis. مجموعة من المؤلفين، مطبوعات جامعة كامبردج، كامبردج، ط الأولى، 2005.
2- د. فرست سوفي، الوسائل القانونية لمجلس الأمن في تدويل النزاعات المسلحة الداخلية وتسويتها، منشورات زين الحقوقية، بيروت 2013.
3- عدنان عبدالعزيز المهدي الدوري، سلطة الأمن في اتخاذ التدابير الموقتة، ط1، دار آفاق عربية، بغداد 2001.
4- دور عمليات حفظ السلام الدولية في تسوية النزاعات المسلحة الداخلية، محمد جبار جدوع، كلية العلوم السياسية، جامعة الكوفة، الكوفة، العراق، 2017.
5- د. بطرس غالي: الأمم المتحدة واحتواء الصراعات العرقية، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، يناير 1994.
6- الدوري، ذات المصدر.