Atwasat

التُهمة صحفي!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 14 يوليو 2020, 04:12 صباحا
أحمد الفيتوري

• منع الفجر الجديد
شغفي بالصحافة، مُستغرب بالنسبة لي حتى الآن، وأحيانا يُشبعني إرجاعه، لأثر استاذي "إبراهيم السحاتي" بالسنة الخامسة ابتدائي، من عمل أن أُصدر جريدة حائطية أسميتُها "الشروق"، ومن تكفل بمتابعتي ودعمي، وحين عملتُ بالصحافة، كان من أول الذين أجريتُ معهم حديثا صحفيا، حيث كان أول رئيس لأول نقابة للمعلمين في ليبيا. لكن أستغرب صمود ذلك الأثر، في وجه من كانوا يُسفهون العمل الصحفي، من السلطة والمجتمع، وخاصة من بعض فئة المثقفين، فقد عشتُ فترات كانت صعبة وثقيلة، من كُتاب، وأدباء زملاء، وأصدقاء، ينظرون للصحافة باستخفاف، ومنهم من سافرتُ معه، ونظر باستغراب لإصراري على الحصول على الصحف الصادرة، اليومية والأسبوعية.

هذا مضاف إلى السلطة الغشيمة، التي منعت تقريبا الصحافة في ليبيا، والزعيم الأوحد، المفكر الثائر، المعلم القائد!، معمر القذافي، قد نظّر للصحافة، في كُتيبه الأخضر، نظرة مستخفة، ثم عمل بعسف وقمع، حتى وأد الصحافة في البلاد، ومنع إدخالها من الخارج. وأذكر أني ذات مرة، كنت عائدا من السفر، ووجد مفتش الجمارك في شنطة ملابسي، جريدة "الفجر الجديد" الليبية، ما حملتها معي لأن لي مقالة منشورة بذلك العدد، فصادرهُ المفتش، بحجة أن لديه قرارا، بمنع إدخال أية مطبوعة.

شغفي بالصحافة، جعلني أتقن تهريب النسخ التي أقتنيها، كما جعلني في السجن، أعمل مع آخرين لإصدار جريدة ومجلة من ورق السجائر، وقد سميت "جماعة الصحافة"، جماعة القضية التي كنت منها، وحُكم علينا بالسجن المؤبد، وهذا الأمر معتاد أن تُكني مجموعة سجناء الرأي، فقد عُرفت مجموعة ( 106) المئة وستة، لاعتبار أن عددهم 106، سجناء الرأي من حركة القوميين العرب، من سجنوا عام 1967م. وقد كُنيت الجماعة، التي أنتسب اليها بجماعة الصحافة، لأن أغلب المجموعة من الكتاب والشعراء، من ينشرون كتاباتهم بالصحافة بطبيعة الحال، رغم أنهم لا يعملون بها، لكن هذه الكنية، لم تُقبل من بعض الزملاء في الجماعة، ومنهم من كان ينظر باستعلاء أنه كاتب، وليس صحفي.

• الكناسون يبحثون عن الحب!
شغفي بالصحافة، جعلني منذ الصغر أراسل الصحف المحلية والعربية، وقد اكتشفت مؤخرا مراسلة منى، إلى مجلة "ليبيا الحديثة" الأسبوعية، ما رأس تحريرها ابن حييّ الصابري، الصحفي المميز "الصالحين نتفة"، وفحوى المراسلة، إشادة بالمذيعة التلفزيونية الجميلة سالمة الحمري، وكان العدد قد صدر يوم 31أغسطس 1969م، وطبعا لم يوزع نتيجة الانقلاب العسكري 1 سبتمبر 1969م. وهذا ما يُبين العلاقة الراسخة بيني والصحافة، لهذا عملت كصحفي مهني منذ البدء، حتى قبل أن أُعين رسميا، ونتيجة لمرحلة السبعينيات، فقد كُنت ذا ميول يسارية، خاصة وأني ولدت بحي شعبي يسكنه عمال وموظفون صغار، فقد توجهت في التحقيقات الصحفية إلى هؤلاء، فمثلا أول تحقيق صحفي لي كان عن الكناسين، تحت عنوان "الكناسون يحتاجون إلى الحب"، وجاء ذلك أن البلدية أدخلت الميكنة في عملية نظافة المدينة، مما نتج عنه أن البعض منهم تم الاستغناء عنه، فذهبت إليهم في استقصاء صحفي، كنت الأول من يهتم بهذه الفئة وينحاز إليهم، هكذا بدأت التهم تلبسني من شيوعي ماوي حينا، وتروتسكي حينا أخر.

الصحافة في الحقيقة هي التهمة، حيث كانت تثير المسكوت عنه اجتماعيا، وكانت بالنسبة للنظام الفاشي، تمثل عقبة لمشروعه في التفرد بالسلطة، لهذا بقية التُهم لتسويغ ضرب الصحافة، بضرب الصحفيين تحت الحزام، فكانت التُهم تتكاثر وتتعاقب وتتنوع. وفي الأثناء تم تعقب الصحفيين، ومنهم الكاتب "عوض ابريك" من كتب مقالات جريئة ضد توجه النظام إلى الخارج تحت دعاوي وحدوية، وله على ما أذكر مقالة استعارت في عنوانها مثلا شعبيا فكان "عن النخلة العوجاء"، كذلك حُقق مع الرسام "محمد نجيب" حول كاريكاتير ساخر له.

وبالنسبة لي أذكر مثلا مشكلة، أثارها مقال "سجل أنا طالب ورقم جلوسي 77"،وقد كنت حينها طالبا بمدرسة عمر المختار الإعدادية الثانوية، وقد عرضتُ في المقال بمدرس التاريخ والاجتماع، دون ذكر اسمه، لكنهُ احتج عند ناظر المدرسة الحكيم، والدارس بالجامعة الأمريكية ببيروت، فتحي الجدي من استدعاني مشجعا، وجعلني ألتقي المُدرس وعقد بيننا جلسة حوار، كان فيها مدافعا في مواجهة المُدرس، من كان يستهين بالصحافة ويعتبرها "خرابة نجوع" أي مفسدة للمجتمع.

والحقيقة المرة، أن الصحافة كانت ومازالت حتى عهد ترامب، تهمة، لأنها تُفسد على الفاسدين مشاريعهم.
وهكذا يبدو أنها سيرة وانفتحت...