Atwasat

من يرَ الشجرة لا يرى الغابة

سالم العوكلي الثلاثاء 14 يوليو 2020, 04:01 صباحا
سالم العوكلي

في المقالة السابقة، ذكرت أنني لن أخوض في التفاصيل على حساب المنطلقات الأساسية التي تحكم طبيعة الصراع في ليبيا. وفي هذا الشأن ثمة مقولة رائجة تقول أن من يرى الشجرة لا يرى الغابة، لأن التفاصيل الدقيقة قد تشوش على رؤية الصورة العامة، وننغمس فيها مشيحين بعقولنا عن الثوابت التي ننطلق منها في الحكم على أفكارنا.

بمعنى ثمة من يركز نظره وحديثه على وقائع هامشية، أو آخر ما يحدث، ناسيا أو متناسيا كل الآليات التي أفضت لهذه النتيجة، مثل الذي يقيم المشاكل التي تظهر في شجرة من اصفرار أوراق، أو عفن ثمار، أو موت جزئي دون أن ينتبه إلى أن هذا المشاكل الظاهرة تبدأ من الجذور، وباعتبار تخصصي الأصيل في التربة والمياه فإن كل ما سيظهر على النبات من مشاكل تكمن أسبابه في هذه التربة، أو إدارة البيئة الحاضنة للجذور، أو ما يسمى مرقد البذرة، والتربة في حالتنا الليبية هي مركب معقد من عناصر مختلفة تتعلق بالثقافة والتنشئة والظروف التاريخية والاقتصادية التي يتشكل فيها العقل الجمعي والتي تتحكم في صيرورة إزهاره أو إثماره أو تصحره وتسرب العفن إليه.

تردني أسئلة أو تعليقات أو انتقادات تتعلق بمثل هذه التفاصيل المزعجة الظاهرة فوق السطح للعين، وعادة ما أمضي إلى الحديث عن أسباب هذه العوارض من خلال الحديث عن (جذور) المشكلة. وغاية مثل هذه الأسئلة الخبيثة (ليس بالمفهوم الأخلاقي) أنها تسحبك من حقل الجدال الواسع، ومن النظر في الغابة بأكملها، إلى التحديق في جذع أو أغصان شجرة أمامك، والغاية أيضا التشكيك في منطلقاتك (الجذرية) عبر التشويش عليها بأحداث جزئية.

في حالة الصراع الليبي- الليبي الراهن، ومن هذه التفاصيل التي تحاشيت النقاش فيها مباشرة أغلب الوقت: الإشارة إلى التشكيلات السلفية أو القوى الداعمة عند الحديث عن الجيش، أو الدعم الخارجي الذي يتلقاه الطرف الآخر حين الحديث عن التدخل التركي، أو ذكر تضحيات قوات البنيان المرصوص حين الحديث عن محاربة الإرهاب. ويقع مثل هذا التشويش في حقل ذر الغبار في عيون الفكرة التي أتتبعها، والثوابت الأساسية لتجاوز الأزمة وبناء الدولة التي انطلق منها، والاستغراق من جديد في هذه التفاصيل المنقولة من شريط الأخبار أسفل الشاشة أو منشورات على مواقع التواصل، وكلها تنزع المعلومة (حتى وإن كانت صحيحة) عن سياقها العام. وكما يفعل الساحر المتلاعب على مسرح حين يُسلّط عيون المشاهدين على جزئية هامشية كي يمرر لعبته السحرية التي هي غاية المشهد، أو ما يسمى بخداع البصر. ورغم ذلك فإن نظرتي للغابة لن تبعدني تماما عن أسئلة تتعلق بشجرة أو ورقة معلقة في غصن إذا لزم الأمر، وهذا ما سأتناوله في مقالة لاحقة لأنها قد تشكل عارضا مهما للفكرة الأساسية.

ولتوضيح فكرة الغابة، أو الصورة العامة، سأروي حادثة كلامية وقعت فترة ظهور جماعة متطرفة في درنة وضواحيها العام 1996 بإمرة الشيخ عبدالحكيم بالحاج قامت بذبح عناصر من الشرطة وأحدثت شوشرة في المدينة، وتعاطف البعض مع هذه الجماعة التي تعكر صفو نظام القذافي في ذلك الوقت، وقلت وقتها أني لو خبرت بين هذا الجماعة والقذافي سأختار القذافي (رغم كراهيتي الحادة للنظام في ذلك الوقت وحلمي بسقوطه) لكن حين تجبر على خيارات آنية تحدث فوق الأرض وليس في حقل النظريات السياسية والاجتماعية، فإن خيارك سينطلق من مبادئ تتعلق بطبيعة الأزمة وبالتفريق بين مآلات الأطراف، والصورة العامة متأتية من معايشة تداعيات العشرية السوداء في الجزائر في ذلك الوقت، ومع بروز الدولة الخمينية في إيران وتنكيلها بالنخب، وكنت أرى وقتها أن مثل هذه الجماعات التي تسعى للحكم باسم الدين هي الخطر الأكبر على مستقبل البلد والإنسانية عموما، وأن النظم الدكتاتورية العتيدة بكل أنواعها (عسكرية أو مدنية) قابلة للتحطيم والنهاية كما يخبرنا التاريخ القديم والحديث، أما من يستخدم الدين للوصول إلى السلطة أو إدارة المجتمع سيكون العنف أداته الأساسية، حيث يدخل المقدس المجال العام وتفاصيل الحياة والسياسية، أو كما يقول تيري إيجلتون في كتابه "الإرهاب المقدس": "لم يتوقف البشر أبدا عن قتل بعضهم البعض منذ فجر التاريخ. ويعود الإرهاب إلى ما قبل العالم الحديث. إذ هناك بزغ إلى الضوء مفهوم المقدس: وترتبط فكرة الإرهاب بنحو وثيق بهذه الفكرة الإبداعية والهدامة. المانحة للحياة والقاتلة في آن". وتكون هذه الفكرة كما يستجلي الباحث في كتابه هدامة حين ترتبط بالسلطة أو بالسعي إليها، أو باستخدامها للتحكم في المجتمع سابقا ثم في الدولة التي تدير المجتمع. لأن ثمة شعورا يغمر السلطة الدينية السياسية بأنها مبعوثة من قبل إرادة الله، ومكلفة بأن تقود الناس إلى مصيرهم المحتوم ولو بقتلهم على نياتهم، ولا ننسى مثل هذه الخطابات التي انتشرت فترة حكم الأخوان لمصر في وسائلهم الإعلامية، التي كانت تؤكد أن برنامجهم السياسي مقدس ومعارضته نوع من الردة، بل ووصلت إلى رؤى منامية تتحدث عن أن محمد رسول الله كان يصلي خلف محمد مرسي، ووصل الأمر إلى أن محمد مرسي أعلن في خطابه بمناسبة ذكرى انتصار أكتوبر أنه سيبعث مجاهدين لمقاتلة النظام السوري، ذلك الاحتفال بالنصر الذي حققه السادات بينما كان قتلة السادات يكرمون فوق المنصة.

حقيقة كنت مرعوبا وقتها من تلك المشاهد وغيرها من كوابيس هذا الحزب المتفرع عن جماعة مارست الإرهاب والعمل السري لعقود طويلة وهي تتحكم في أكبر الدول العربية المركزية، وهذا الرعب كنت أروضه بكون ليبيا مختلفة، وأن الأخوان بعكس مصر وتونس خسروا ثلاثة انتخابات في ليبيا، وأنه لا توجد حاضنة اجتماعية لهم، لكن خياراتهم في حلم الوصول إلى السلطة كانت متعددة، والدعم الذي يتلقونه من قوى عالمية وإقليمية كبير جدا، ورغم اكتشافهم أن لا شعبية لهم في هذا المجتمع الذي يتمتع بحساسية فطرية ضد كل من يزايد عليهم بالإيمان أو التدين، تمكنوا في النهاية من العاصمة، وسيطروا على موارد البلد ومفاصل النظام الجديد، عبر آليات بديلة لصندوق الاقتراع، تتعلق بالابتزاز، أو استخدام المال السياسي، أو شن الحروب ونشر الفوضى، أو اللعب على الاستقطابات الجهوية والقبلية ونشر العداء بين المدن، أو استخدام جماعات مسلحة متطرفة لا يربطهم بهم سوى حلمهم المشترك بالدولة الإسلامية. ومشروع (الدولة الإسلامية) الذي ارتبط بجماعة داعش هو في الواقع نفسه مشروع (الأخوان والقاعدة وأنصار الشريعة وجيش الرب وبوكو حرام وغيرها من المسميات السامة) وإن اختلفت الوسائل أو درجة الاستعجال.

ويمثلون في هذه الحالة كابوسا، ليس للديمقراطية والدولة المدنية فقط، ولكن كابوسا للكيان وللوطن وللدولة من أساسها، لأن عقيدتهم، مثل داعش أو القاعدة كتنظيمات أممية، لا تؤمن بحدود الدولة القطرية ولا بالوطن أو المواطنة، ولا بالحدود أو السيادة، وهذه ليست مصطلحات يختلفون معها سياسيا أو فكريا فقط كما عارضها القذافي، ولكن بالنسبة لهم مصطلحات (كفرية) ضد رؤيتهم الثابتة للدولة الإسلامية الشاملة تحت سلطة خليفة واحد، وهذا ما يجعلهم مرتبطين الآن بالحلم العثماني الذي يمثله أردوجان كوسيلة لتحقيق مشروعهم عبر دولة قوية عضو في حلف الناتو، دون أن تنقطع علاقاتهم الوثيقة بمؤسسات الدولة الخمينية، وبالتالي ليس غريبا أن يكون النظامان التركي والإيراني داعمين لهذا التيار في ليبيا الذي يشكل فرعا لحلم الدولة الإسلامية، بعد أن سقط مشروعهما في مصر وسوريا، ومازال يترنح في العراق وتونس.