Atwasat

أفكار لأزمنة النضال النسوي (1- 2)

بوابة الوسط - القاهرة الإثنين 13 يوليو 2020, 09:23 صباحا

انتهت في مطلع هذه الألفية معاول الحركة النسوية الغربية من تقويض تركيبات وتصورات أهواء الرجل حول شخصية وصفة المرأة ومكانتها، وفيما يحتضر الذَكَر الأبيض تنكمش فورة نسوية السبعينيات وتتراجع الأيديولوجيا المغذية لكفاح الحركة إلى المُحافظة، ويبدو أن ما سجلت من نقاط على جميع الأصعدة، ليس أقلها إعادة اكتشاف الأدب وتعريف وظيفة المرأة في الإنتاج الثقافي، والقوانين المرافقة، يظل مجتمِعا محدودا إذا نظرنا إلى عدم توفيق الطبقات الأقل حظا في توظيف هذه الإنجازات لصالح نسائها. وكما أن القوانين الضامنة لحقوق الأقليات في الغرب لم تسلم من التفاف الحاذقين والماكرين، كذلك فإن التهاون بحقوق المرأة لم يزل وإن استعصى على غير المدققين تمييزه.

مقابل هذا النشاط المحمود في العالم الغربي، تظل مكانة المرأة الشرقية، وبالخصوص في العالم العربي والإسلامي، أدعى للرثاء. ورغم خروج المرأة من عزلتها، وإلقاء الحجاب، وتحقق بعض ما طالب به قاسم أمين وهدى شعراوي، لا نزال في مرحلة ما قبل السبعينيات الأوروبية. وكان بالإمكان تحقيق أكثر من ذلك، لو لم تظهر الجماعات الإسلامية، ويدفع الخليج المحافظ بأمواله في دعم صعودها، ولو لم تنقض الأنظمة العسكرية على سابقتها الأكثر استنارة، لتمارس القهر بحق الرجل والمرأة في آن معا، في الوقت الذي كنا نود أن نسمع أصوات احتجاج الرجال، ذلك أن من مجرى العادة إذا ثار الرجال على حاكمهم، ثارت النساء عليهم.

وأقول إن وضعية المرأة في عصرنا أدعى للرثاء، لأن تراثنا الشرقي كان بالتحديد أكثر ملاطفة ومحاباة للمرأة من التراث الغربي.

وليس من كتاب قد بسط آفاقا رحبة للتفكير والجدل حول تاريخ المرأة الشرقية مثل كتاب "Women and gender in Islam: historical roots to the modern debate" لمحاضِرة هارفارد ليلى أحمد، لبراءته من النزعة القومية والتعصب العرقي اللذيْن كانا يطغيان على الجدل الغربي حول موضوع الكتاب.

في إضاءتها للجدل المحتدم في الشرق الأوسط بين دعاة التنوير والتقليديين حول الحجاب والنقاب، والتي تحتل قسما كبيرا من مادة الكتاب، تحوم الكاتبة حول أطراف أزمنة عتيقة، أمامها تحديات ندرة المصادر الأساسية واستحالة اختراق عين البحث حُجُب أكثر الحقب إظلاما في تاريخنا. وفي هذه الرحلة المشوقة، يكشف البحث عن عصر ممتد حظيت فيه الأنثى بالمساواة مع الذكر والشراكة معه، وفي قرون تلت اعتلت النساء مكانة سامية على الرجل، اتخذت فيه الأقوام ربات، وانتسب الأطفال إلى أمهاتهم، وقدست الآلهة الأم وابتُغي رضوانها. وترفض المؤلفة التفسير الأركيولوجي لإخضاع المرأة، وتؤكد أن الثورة الزراعية، وقيام العمران، وتركيز الثروة في طبقات معينة،
والحاجة إلى زيادة أعداد العاملين والزراع، كانت الأسباب البينة من تراجع مكانة المرأة عما كانت عليه في مجتمعات الصيادين والمحاربين. وليس بإمكاننا الجزم بصحة هذه الجدلية، فاقتصار المرأة على توصيفها الجسماني ودورها البيولوجي بالنسبة للعقل الجمعي للشعوب الهمجية كان سيخدم الميل العام لزيادة النسل إزاء معدل وفيات للأطفال المرتفع، وحاجة العشائر لتعزيز قدراتها العددية في صراعها مع العشائر المنافسة.

ومهما يكن من أمر، لا شك أن ما لدينا من شذرات تروي تاريخا مبتورا للحضارات الشرقية العتيقة، تشي بأن هذه الشعوب كانت لها نظرة يمكن أن نعدها تقدمية بالنسبة للمرأة، وبشكل خاص في دولة سومر ومصر القديمة. وليس من شواهد ذلك الأثر الذي تثمنه الشخصية المستنيرة سلطان الربات، وقدرتهن فوق مجموع الأرباب، بل وكذلك حزمة القوانين الصادرة في تلك العهود السحيقة. ومنها قانون الميراث والملكية في سومر، الذي مكن المرأة من إدارة أموالها بنفسها والتصرف في ملكيتها وميراثها ونقله إلى الورثة. وقانون الدولة المصرية الوسطى الذي كان يعاقب الرجل المعتدي على المرأة بمائة جلدة، ويمنح المرأة حرية التصرف في مالها وإدارة أملاكها. ولعثرة حظ
المرأة، ستستبدل قوانين حامورابي والآشوريين هذه النصوص، وسوف تميل الكفة للرجل، وتضمن حماية حقوقه، ومثال على انحياز تلك النصوص عقوبة كلدانية بقطع اليد على من يضرب والده، ولا شيء من ذلك لمن يضرب أمه. بالإضافة إلى ذلك، ستولد من أقدم عهود الدولة الآشورية عادة التمييز بين المرأة "المحترمة" ونساء الطبقات الدنيا أو العاهرات المعرضات للمضايقة أو الاغتصاب، وذلك باتخاذ رداء منسَدِل ووضع البرقع والقفازات في بعض الأحيان. وسوف يطول العهد بهذه العادات، على الأقل التزام النساء المحتشمات بالإقامة في البيوت واقتصار مغادرتها لأكثر الأسباب قهرا، حتى عهد قريب في بلادنا، وإلى مطلع القرن الثامن عشر في أوروبا الغربية.

وتقلل ليلى أحمد من موضوعية إسهامات بعض البحاثة المنحازين في دراستهم للمرأة الشرقية، وتنتقد تبسيطية وسطحية الأفكار المتداولة في الغرب، التي تفيد بأن قمع الإسلام للمرأة وتضييقه عليها إنما ينسجم مع محيط شرقي لم يكن قط في تراثه ما يصلح أن يوصف بتأييد للمرأة أو انحناء لها. وتمضي في نقدها لتلك النظريات، بالتدليل على أن تاريخ أوروبا (دون انتواء عزل تاريخ اليونان الحضاري الغني فكريا وأدبيا وجماليا) ليس يفصح عن القبول بحقوق المرأة أو الميل إلى تقديسها. على العكس، صادفت المرأة في المجتمع الإغريقي اضطهادا وتمييزا، ليس من ذلك عزلها في المنزل في غرف لا تطل على الشارع، أو إغلاق مدرسة سافو اللسبوسية للفتيات احتجاجا على علاقات غير أخلاقية بين المعلمة والفتيات، وهي حجة الأغلبية الضعيفة لإبعاد الفتيات عن فرص تثقيفية متوازنة مع إخوتهن الذين ظلوا يمرحون مع معلميهم، بل وكذلك الفكر الفلسفي الأرسطي المعقد، الذي حصر تعريف المرأة في الوظيفة البيولوجية، وانتقد ملامح شخصية المرأة التي تجلت لعقله النافذ، تصورات ستنتقيها الكنيسة الغربية وتضفي عليها قداسة الوحي الإلهي.

وعلى النقيض من التصور الكلاسيكي لكل من يعاني من عقدة التميز الغربي، حتى ليلفقها للماضي تلفيقا، لم يتحسن وضع المرأة اليونانية إلا بعد زوال دويلات المدن من الوجود واستعمار الهيلينيين لدول الشرق القديم. وحققت المستوطنات الهيلينيات في الإسكندرية مكانة تغبطهن عليها نساء البر اليوناني، إذ إن الإغريقية تحت تأثير اكتشاف قوانين مصرية منحازة للمرأة، رغبت عن القانون القديم، ومالت إلى العقد الشرقي في تنظيم الملكية والعلاقات بين الرجال والنساء، ورفضن الاقتران إلا على شروط القانون المحلي، وأكثرها إثارة للدهشة تحريمها على الزوج (في عهد الدولة الحديثة) الزواج من امرأة ثانية واتخاذ الخليلات أو غلام محظي.

وإزاء انقلاب لا نكاد نجزم بأسبابه، سار الشرق كله في ركب الأقوام الآرية (ولم يكن الفرس من أصدقاء المرأة)، واتخذ الآلهة الذكور أربابا، وتراجعت الربات حتى طويت صفحة الآلهة الأنثى، واكتظت القصور بالجواري المتفننات في تأكيد طبيعتهن البيولوجية، وزاد اتكال النساء في معيشتهن على أزواجهن، وانتشرت المواخير، وارتفعت نبرة إدانة المرأة والخزي من جنسها. إزاء هذا كله صعدت المسيحية واضطُهدت ثم اضطَهَدت، وظهر الإسلام وتوسع وبَتر سيفه.