Atwasat

حتمية المجاز

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 12 يوليو 2020, 02:02 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

يمكن وصف الإنسان بأنه "حيوان مجازي". أي يعيش في عالم من الاستخدامات اللغوية المجازية التي تسمي الأشياء بمسميات تنتمي إلى عالم المجاز، أي التعبيرعن الأشياء بشكل غير مباشر، وليس إلى اللغة الواصفة التي تخص المسميات بأسماء تقتصر عليها . ولعل أبلغ دليل على ذلك وأبسطه تعدد معاني الكلمة الواحدة بما يصل العشرات أحيانا، وإلى درجة التضاد أحيانا أخرى، مما يدل على أنها تعرضت إلى انزياحات متتالية تضم فيها كل مرة معنى جديدا مختلفا، وهذه الانزياحات ليست شيئا آخر غير المجاز.

فلفظة "رائع"، على سبيل المثال، التي نصف بها شيئا فائق الجمال، تعني في الأصل "مخيف، أو مُروِّع"، ولكنها نقلت هنا، عن طريق الانزياح المجازي، إلى ضدها، بحيث صرنا نعني بها أن الشيء الذي نصفه بالغ الجمال، بحيث يبتعث في وجداننا شعورا بالدهشة القريبة من الإحساس بالجلال والرهبة.

ولفظة "عليل" التي نصف بها النسيم اللطيف، تعني أيضا "مريض" حين نصف بها جسد إنسان، أي أنها انتقلت إلى الضد. وقد لخص الشاعر الأندلسي ابن زمرك هذا الجانب حينما قال:
نسيم غرناطة عليل... لكنه يبريء العليل ولعل المجاز نشأ، أول ما نشأ، بسبب معتقدات سحرية تتعلق بالتشاؤم والتطير، وأحيانا الدماثة. فحين نقول، في لهجتنا الليبية، عن الكفيف أنه بصير، فهذا مجاز يتجنب ذكر العماء خوفا من الإصابة به، كما أنه يدل من جانب آخر، على احترام مشاعر الشخص الموصوف. وكذلك الشأن حين نسمي الفحم "بياضا"، فهذا ينطوي على التشاؤم من اللون الأسود. ثم لا ننسَ أن لفظة "مجاز" ذاتها تعني في الأصل "معبرا أو مسربا أو مدخلا" يقود إلى مكان آخر، فكأن المجاز هنا، بالمعنى البلاغي، يقود إلى معنى آخر غير مدلوله الظاهر.

بالنسبة إلى الأدب، فما دمنا نتحدث عن عمل أدبي لابد أن" يتسرب" المجاز إلى هذا العمل شئنا أم أبينا، ذلك أن المجاز، مثلما حاولنا أن نوضح، محايث للغة. فمعظم ألفاظ اللغة حاملة لمجازات تشربتها عبر التاريخ، و دور العمل الأدبي يتمثل في أنه يتيح للألفاظ تفتيح طاقاتها المجازية خلال عملية دخولها في علاقات مع غيرها من الألفاظ. إلى جانب ذلك فإن القاريء يفترض، بمجرد شروعه في قراءة عمل أدبي ما، أنه داخل إلى دنيا المجاز، لذا يظل يبحث عنه ويحاول تخليقه من خلال العلاقة التي تقيمها ذائقته الجمالية وحسه الفني ومخزونه الثقافي مع دنيا النص. وبذا يمكن القول أنه لا مفر، سواء في الحديث اليومي العادي أو العمل الأدبي، من المجاز.