Atwasat

وأحيانا على القلب العينين غشاوة

سالم العوكلي الثلاثاء 07 يوليو 2020, 05:49 صباحا
سالم العوكلي

في مقالته "إشاحة العقل وإغماض العينين" المنشورة بجريدة الوسط ، ذكر الصديق عمر الككلي بعض التفاصيل والوقائع الواردة في مقالتي "يمضي البعير ويترك خلفه بعرا" المنشورة بموقع قناة 218 ، والتي أوحت له بأني أشحت بعقلي وأغمضت عينيَّ عن حقيقة ما يحدث، ولن أناقش هذه التفاصيل والوقائع لأنها ستظل دائما محل اختلاف ولا أحد منا متأكد منها تماما، ولكن سأرد بمنطلقات عامة تقربنا أو تبعدنا، وضمن مبدأ عام يحكم وجهات نظري ويتعلق بكون تسييس الدين، أو ما يسمى "الإسلام السياسي المعتدل" ما هو إلا فكرة لتوطين فاشية طويلة الأمد، وكل التفاصيل المزعجة لن تبعدني عن هذه القناعة المستلهمة من تاريخ هذا التسييس ومما يحدث الآن في مناطق عدة، وكتبت كثيرا عن ذلك بعينين اعتقد أنهما مفتوحتان في زمن يصبح فيه إغماض العينين وإشاحة العقل سبيلا للنجاة.

لم يعجبني عنوان مقالة الككلي لأنه يلقي حكما مسبقا، فالأمر لا يتعلق بإغماض العينين بقدر ما يتعلق بالنظر للمسائل من زوايا مختلفة، فكوني لا أرى الزاوية التي لا يراها عمر لا يعني أن عينيَّ مغمضان، وكوني لم أفكر فيها بالطريقة التي يراها عمر لا يعني أن عقلي مشاح عنها. اختلافي مع عمر طفيف جدا، فنحن ننطلق من أرضية واحدة ، وباعتبار صداقة طويلة وحوارات كثيرة نحن نسعى إلى غاية واحدة، أما إذا كان أخي عمر يقصد بإغماض العينين حديثي عن سلبيات طرف دون طرف آخر، أو جهة دون جهة، فهذا ما سأحاول توضيحه فيما يلي، مشيرا إلى أني رافقت منذ كتابتي في جريدة ميادين العام 2011 ، ثم موقع بوابة الوسط وموقع قناة 218 ، مجمل الوقائع وفي كل بقعة من ليبيا عبر نهجي النقدي الذي يتجاوب مع الأحداث والأمكنة الساخنة، وإذا كنت أكتب هذه الفترة عن طرابلس وأوضاعها، حسب قناعتي حتى الآن، فلأن ما يحدث في طرابلس هو الخبر الأول من جانب، ولأن طرابلس بالنسبة لي ليست مدينة تقع في الغرب الليبي ولكنها عاصمتي ومكمن هويتي ومصدر قوْتي وقوّتي، وحري بها حين تجد طريقها أن تقود ليبيا إلى بر الأمان. وعبر أكثر من 600 مقالة ــ متوفرة كلها على شبكة الإنترنت ــ تابعت الأحداث حسب وجهة نظري. كتبت عن كل بقعة في ليبيا، بروية حينا وبغضب أحيانا، وخرجت عن طوري وشتمت وانفعلت، وكيف لا أنفعل والأرض تحترق تحت أقدامي، وشباب ليبيا يموتون يوميا، ونخبتها تغتال ونساؤها الناشطات يقتلن بدم بارد. كنت منفعلا تجاه كل من تصدروا هذا المشهد ومن كل الأجسام الفاشلة التي تشكلت بعد فبراير، ومن كل مكان في الغرب والشرق والجنوب، كتبت مرارا ضد قانون العزل السياسي الذي كان سيضع ليبيا في مهب خطير، وكتبت مقترحا قانونا للعفو العام (لا عافية لليبيا دون عفو) قبل أن يصدر عن مجلس النواب بأربعة شهور، كتبت رسالة إلى السراج متفائلا بدخوله المشهد ومقترحا بعض الرؤى فور اعتماد البرلمان للمجلس الرئاسي، وهاجمت بحدة كل من حاولوا في البداية عرقلته، كتبت بحرقة عن طرابلس عندما كان سكانها مذعورين تحت قصف وقذائف الميليشيات التي تتنازع مناطق النفوذ في طرابلس، وكتبت ضد نهم أولياء الدم ورغبتهم في الانتقام، وعن تدخلات السلفية في الشأن الحياتي العام في الشرق، حين كفر أحد شيوخهم كاتبا، أو حين أحرقوا كتبا، أو حين كفروا مذهبا لمكون ليبي أصيل، وشتمت أشخاصا بأسمائهم، من ضمنهم السيد علي التكبالي حين كان يعارض ويحذر من مؤامرة اتفاق الصخيرات، وأنتهز الفرصة لأعتذر له لأنه كان أبعد مني نظرا. وفي الفترة الأخيرة أكتب عن طرابلس لأنها المنطقة الساخنة، ولأنه، حسب قناعتي، طرابلس مخطوفة من ضمير ووجدان وتاريخ الليبيين لصالح تنظيم أممي لا يعتقد في مفاهيم الوطن أو الدولة القطرية ما بالك المدينة أو الإقليم.

ورغم كل شيء أقول لأخي عمر، بمناسبة حديثه عن إشاحة العقل، وكما سبق وأن شككت في مساهمة العقل الكاملة في التاريخ وفي الأحداث التي تقرر مصيرنا: الحياة ليست معقولة كما تتصور، أخي عمر، والتاريخ كجزء منتقى ومؤرشف من الحياة ليس عقلانيا. فلم يكن معقولا، في لحظة مفصلية، أن يستولي 12 ضابطا صغيرا على دولة مساحتها 2 مليون كم مربع وفي ليلة واحدة ، لنعرف بعد 40 سنة أن كل ما حدث هو جزء من عملية استخباراتية بريطانية سميت بلاك بوت، وليس معقولا أن الطفل عمر عندما كان يقرأ في المرحلة الابتدائية حالما بأشياء كثيرة كان مصيره يخطط له ويحدد في دهاليز المخابرات الإنجليزية بلندن التي جاءت بدكتاتور إلى ليبيا سيضع الشاب عمر الككلي ــ المتفتح على الحياة والثقافة والإبداع والمقبل عليها بملابسه الملونة وضحكته الصادحة ــ في غياهب سجن محكوما بالمؤبد، وكل ذنبه أنه اختار القلم والورق المجعد للتعبير عن رأيه وثوابته. لذلك أدرك أخي عمر سر قلقك وأحيانا غضبك، لأني أعرف ماذا يعني لك الانقلاب وكابوس الحكم العسكري والمحاكم العسكرية والشعبية، ولا تريد أن يتكرر هذا لأولادك ولا للأجيال الليبية المنفتحة على الحياة، وأنا مثلك لا أريد لهذا أن يتكرر، لكن المعقول الوحيد المتاح إلى الآن أن اللعبة تخرج من أيدينا، وأن أحلامنا التي تحدثنا عنها منذ عقود تتصدع في هذا المصير المتوقع الذي عادة ما يعقب الثورات وسقوط النظم الشمولية، لأنه لم يكن معقولا أن هذا الربيع؛ الذي تفتحت براعمه على أكف شبان الفيس بوك والتويتر من الطبقة الوسطى الناشئة في الزمن الرقمي، تسرقه الظلامية السلفية بكل أشكالها، وتحاول أن تعود بنا إلى زمن سفك الدماء باسم الله والفتن الكبرى حين تحالف رأس المال والدين في أول فاشية شهدها التاريخ الإسلامي، وهذا هو الخطر الذي أجعله أولوية على كل الأخطار، لأن هذا المزيج الفاشي هو مركب السلطة الآن في عاصمتنا وفي مصراتة للأسف، وهي مدن قادرة ــ لو تتاح الفرصة لكفاءاتها الحقيقية وخبراتها ــ على أن تجعل ليبيا في الواجهة.

كثيرا ما تساءلت: ما الذي يجعل مفكرا علمانيا مثل عزمي بشارة ينحاز إلى هذا التوجه، أو هذا المركب الفاشي العتيد، عبر المؤسسات الإعلامية التي يرأسها وعبر لقاءاته التي أتابعها؟ وما الذي يجعل مفكرا علمانيا كم طالب بفصل الدين عن الدولة، مثل المنصف المرزوقي، يتحالف مع حزب النهضة الإسلاموي، ويدافع عنه بضراوة؟ لكن ما أعتقده أن الاختلال في المبدأ الفكري، نتيجة اللحظة المشحونة عاطفيا، يضع غشاوة على العين والعقل، مثل الغشاوة التي غطت عيون وعقول بعض المثقفين اليساريين العرب حين احتفوا بالثورة الإيرانية الخمينية في لحظة التبس عليهم المفهوم الجوهري للثورة، وحين انتصرت هذه الثورة أول ما فعلته نكلت برفاقهم من اليسار المثقف ومحته من إيران . هذا كلام أحببت قوله حتى لا أنساه ولا علاقة له بعمر أو بمقالة عمر، التي ذكر فيها بعض الالتباسات في وصف الوقائع سأناقشها بالعموم في مقالة قادمة لأنها تثير أسئلة آنية رائجة، مهمة بقدر ما هي معقدة.

الخوف من أشواك عودة الدكتاتورية يجب أن لا يجعلنا نسلك طريق الرمال المتحركة التي يُلّوح بنعومتها الإسلام السياسي، لأنه باختصار من الممكن أن ندوس على هذا الشوك ونمضي ولكن لا يمكن أن ننقذ أنفسنا من الغرق في الرمال الناعمة المتحركة. ففي انتفاضتهم الأخيرة داس الجزائريون والسودانيون على شوك النظم العسكرية ومضوا خطوات إلى أفق الدولة المدنية الديمقراطية، ولكن الإيرانيين فشلوا أكثر من مرة في عبور رمال الدولة الدينية المتحركة التي بطبيعتها تبتلع كل من يحاول أن يتحرك. وحين انتفض الليبيون سلميا ضد هذه الجماعات المؤدلجة، في طرابلس وبنغازي، قُتل منهم في الميادين أضعاف ما قتله نظام القذافي في ميادين الحراك السلمي في بداية انتفاضة فبراير.