Atwasat

الحقيقة في المنفى!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 07 يوليو 2020, 05:46 صباحا
أحمد الفيتوري

تنفست ليبيا في العهد الملكي بـ "رئة واحدة"، تمثلت في الصحافة، بعد منع الأحزاب، لكن الانقلابي الملازم أول معمر القذافي، غبّ انقلابه، أغلق أيضا هذا السبيل للتنفس، حيث أوقف "الحقيقة"، ثم أمم الصحافة، وفي الفترة تلك بين الإيقاف والتأميم، تمكن من إصدار صحيفة، الكاتب الصادق النيهوم، من تبوأ منصب أمين لجنة الفكر والتعبئة، في الاتحاد الاشتركي الحزب الوحيد، ما أنشأه القذافي. كانت الصحيفة التي أنشأها النيهوم، تحت اسم "الشورى" وبرئاسة تحرير محمد على الشويهدي، وقد نشرعلى صفحاتها الصادق النيهوم، سلسلة مقالات تحت عنوان "مقدمة في لغة الثورة". لكن الشورى أيضا لحقها التأميم، فصدرت عن المؤسسة العامة للصحافة، كمجلة فكرية رَأَس تحريرها جمعة الفزاني، وكانت مجلة قومية ناصرية، ثم قذافية تهتم بالنظرية الثالثة للعقيد معمر القذافي.

أثناء هذه الفترة عملتُ رسميا كصحفي، بجريدة الجهاد ثم الفجر الجديد، وكانت هذه الصحف عبارة عن ورق تُطبع عليه إنجازات ثورة الفاتح العظيم!، بعد أن تكون نُشرت بالإذاعة المسموعة "الراديو"، والمرئية "التلفزيون". ولحظتها غادر الصادق النيهوم إلى بيروت حيث أنشأ دار نشر "المختار"، وكتب مقالة أسبوعية بمجلة "الأسبوع العربي"، فيما ترأس محمد على الشويهدي مجلة "الثقافة العربية"، وغادر رشاد الهوني رئيس تحرير "الحقيقة" إلى لندن، وكذا فعل آخرون من كادرها.

الصحافة الليبية منذ تأسيسها، مع نهاية القرن التاسع عشر، منفتحة على محيطها، وشارك فيها محررون، وفنيون عرب، بل ومنهم من أصدر صحيفته في ليبيا، وكذلك من الليبيين من أصدر صحيفة بالمهجر، بل إن التنويري حسونة الدغيس، كان نهاية القرن التاسع عشر بالأستانة، أول من أصدر صحيفة باللغة الفرنسية في التاريخ الإسلامي، وتأسيسا عليه كانت "الحقيقة/ العرب". فقد يكون هذا الباعث لتأسيس "الحقيقة" في الخارج، وإن تحت اسم آخر، فمؤسسو "الحقيقة" كانوا يستهدفون، إصدار جريدة لا محلية منذ البدء، كما أشرنا في المقالة الماضية "مقام "الحقيقة".

وحين أغلقت السبل في البلاد، كانت أرض الله واسعة، ولندن عاصمة الحريات، كفيلة باستعادة الصدور، فكانت "العرب" أول جريدة عربية يومية، تصدر في أوروبا سنة 1977م، ما شارك في تأسيسها ورَأَسَ تحريرها رشاد الهوني، بمشاركة من رأسمال ليبي خاص، وبدعم من مثل الصادق النيهوم، من تابع كتابة مقاله الأسبوعي في الحقيقة / العرب، ما عمل بها مثل الصحفي الفلسطيني الليبي بكر عويضة، ووضعت "الحقيقة" هدفها، كصحافة لا محلية في المهجر أيضا، فكانت "العرب" اللبنة وحجر الأساس، ما مازالت تصدر حتى كتابة هذه المقالة، وإن من مالكين ومحررين آخرين.

نهج "الحقيقة" أن تكون صحيفة متميزة، بالابتكار في الجانبين الفني والتحريري، وفي خلق كُتاب جدد ومقالات جريئة، وترجمة المستجد من صحافة العالم، هذا ما كان نهج "العرب" ولذا كما كانت منفردة في الصحافة العربية، بالصدور في أوروبا، انفردت أن تكون صحيفة العرب في الغرب، وعلّ هذا ما جعل دولا عربية تمنع دخولها، والغريب أن هذا تابعها حتى الآن، وقد كانت مهمة كهذه، جُرأة من رأس المال الليبي، حيث عادة ما كان رأس المال جبانا.

عند صدور "الحقيقة" الليبية، في المهجر تحت مسمى "العرب"، كانت بيروت آخر معقل لحرية الصحافة العربية، قد أغلقت بالحرب الأهلية، والحرب ضد الثورة الفلسطينية، ما أشعلت بفضل العرب الرجعيين وإسرائيل وداعميهم الدوليين. وبالتالي صدرت "العرب" في الساعة، وإصدارها في لندن من لزوم ما يلزم، وهذا يُبين حنكة ومهنية الناشرين، من أصبحوا النموذج والقاعدة لإصدار صحف عربية في أوروبا، حيث صدرت "الشرق الأوسط" بعدعام من صدور "العرب"، ثم جريدة "القدس"، وسيُشارك في تأسيس الأولى، ممن كانوا من العاملين في "الحقيقة".

لهذا وغيره اعتبرت "العرب"، كما إصدار ثان لـ "الحقيقة"، وأن هذا الإصدار نواة، لما صدر في المهجر، تلك اللحظة الاستثنائية ما امتدادُها مُهيمن الآن وهنا.