Atwasat

مَصْلُوحَة

جمعة بوكليب الخميس 02 يوليو 2020, 11:35 صباحا
جمعة بوكليب

أنا مَدينٌ لذاكرتي باعتذار أولاً، وبالشكر ثانياً. الاعتذارُ واجب لأني، منذ سنوات وأنا أكيل لها اللوم، والسباب والشتائم، وأتهمها بخذلاني، والإيقاع بي في شراك مواقف لا أظنني أحسد عليها. والشكر واجب أيضاً، لأن ذاكرتي أفلحت - لا أعرف كيف؟ - في الحفاظ على تفاصيل لمواقف حياتية مَرَّ عليها سنوات طويلة، ومجرد استعادة تذكرها يعد شبه معجزة، وتجعلني أحسّ ببهجة لا توصف. احداها، وقع في سنة بعيدة، وفي ظروف تتسم بالعُسر والشدّة.

قبل أن يتم تشييد سجن " ابوسليم" سيء الصيت والرائحة، كان سجن طرابلس المركزي، "الحصان الأسود" بمنطقة باب بن غشير، مقراً للمحكوم عليهم من المدنيين في قضايا جنائية، وللسجناء العسكريين المحكوم عليهم في قضايا جنائية، وعسكرية، وأمن دولة، وللمحكوم عليهم من سجناء الرأي. سجناء الرأي كانوا في القسم العسكري من السجن وتحت إدارة الشرطة العسكرية. وكان مسموحاً لهم بالخروج من الزنازين للساحة للتمشي والتريض، عبر باب حديدي صغير. أحياناً، سواء لاسباب معروفة لهم أو مجهولة، تقفل الساحة، ويسمح لهم بالبقاء في الممر، وفي أحيان أخرى تغلق عليهم الزنازين لأيام تطول وتقصر حسب الظروف.

ذات صباح، بعد فتح أبواب الزنازين، أذكر أني خرجتُ مباشرة من الزنزانة للممر، بغرض التحقق ما إذا كان باب الساحة مفتوحاً أو مغلقاً، وهل سنتمكن من الخروج للقاء نور شمس النهار وطراوة الهواء، أم سنظل حبيسي ضيق وعطانة الممر، والزنازين؟ لدى وصولي إلى الباب الحديدي، وجدته مغلقاً، فبقيت واقفاً أنظر من خلال فتحات قضبانه إلى الساحة، ورجعت منكسر الخطى والخاطر في طريقي للزنزانة، حينما وصلني صوت صديق آخر مستفسراً عن وضع الساحة، فأجبته بصوت عال" مسكّرة". قبل أن أهم بدخول الزنزانة، سمعت صوتاً آخر يلقي عليَّ تحية الصباح. التفت فإذا بي أجد الأستاذ أحمد محرز، واقفاً بجانبي، مبتسماً، ثم بصوت خجول ومتردد، أفهمني أن الناس في أول النهار تحب التفاؤل، وأنني كان من الأفضل لو استبدلت في اجابتي للسجين الآخر كلمة " مسكّرة" بكلمة " مصلوحة" لأنها من صلاح الحال، ووقعها على النفوس، في الصباح، أهون وأسهل. الحقيقة أنني شعرت بالخجل، وأعتذرت كثيراً للاستاذ أحمد، وشكرته على تنبيهي، وتعهدت بتذكر ملاحظته، والعمل بها مستقبلاً.

أحمد محرز، أطال الله عمره، من أكثر السجناء الذين سجنت معهم نبلاً، ودماثة خلق، وحسن سيرة وأدباً. قصير ونحيل، ولاتسمع له صوتاً عالياً، ونشطاً. يكثر من رياضة المشي في الساحة أو في الممر، وكان من ضمن سجناء مجموعة الأمازيغ. قبل السجن كان يعمل مدرساً، وهو من مدينة يفرن، عاصمة الامازيغ في جبل نفوسه. ولم التقه بعد خروجنا من السجن سوى مرة واحدة، ولسوء الحظ، كانت في سجن بوسليم ، في اجتماع ضم سجناء سابقين، عقد في ساحة من ساحاته، عقب انتفاضة فبراير عام 2011. ولا أتذكر أنني رأيته خارج أسوار السجن. وأتمنى على الله أن يكون بخير.

كلمة "سَكَرَ"، كما تؤكد المعاجم، عربية. فتقول "سَكّرَ الباب" بمعنى سَدّهُ وأغَلقه. لكن وقعها على نفس سجينة، وراء أسوار، وجدران، وأبواب حديدية مسكّرة فعلياً بسلاسل وأقفال، وعلى الريق صباحاً، كفيل بأن يجعل القلب يقشعر والروح تنكمش جزعاً. لذلك، فإني في هذه السطور سوف أحرص على تجنّبها، لأن الموضوع له علاقة بالشجون وليس السجون. والشجون الليبية تحديداً كثيرة، هذه الأيام، وتتزايد عدداً وحجماً، حتى صرنا غير قادرين على حملها أوتحمّلها. وبالتالي، يمكنني القول، من وجهة نظر شخصية، تحاول أن تكون موضوعية، تعليقاً على المأزق الليبي الحالي، إن الباب الذي يؤدي إلى خروجنا من عطن وعتم النفق الذي نعيش فيه، منذ سنوات، مازال "مصلوحاً." والسبب، لأن من بأياديهم نسخاً من مفاتيح قفله، لم يصلوا بعد إلى ما يمكن أن نسمية مرحلة بداية النهاية. بمعنى قبولهم مبدئياً للجلوس مع بعض، وراء أبواب "مصلوحة"، لفض خلافاتهم، والاتفاق على قسمة الكعكة فيما بينهم. وسمعنا، مؤخراً، عبر وسائل الاعلام، عن خطوط حمراء جديدة تضاف إلى ما تواجد من قبل. وتحوّلنا نحن، أهل البلاد، إلى مجرد متفرجين في مولد دولي، تقتسم فيه بلادنا إلى مناطق نفوذ لدول أوروبية واقليمية، وتوزع قطعاً قطعاً، يميناً ويساراً وفوقا وتحتاً. وليس لنا سوى التلاسن والتناطع فيما بيننا على جبهات وصفحات التواصل الاجتماعي لتفريغ شحنات احباطنا وعجزنا على فعل شيء، لأننا سلمنا بأيادينا كل شيء.

لذلك، فإن حرص البعض على قول مصلوحة، أو مسلوحة، أو مسلوخة، أو مشلوحة، أو غيرها من الالفاظ والمصطلحات، لن يغيّر في مجريات الأمور شيئاً.