Atwasat

مقام الحقيقة

أحمد الفيتوري الثلاثاء 30 يونيو 2020, 02:08 مساء
أحمد الفيتوري

• نموذج الحقيقة
التقيته في طرابلس كما في القاهرة، وفي كل مرة يُحدثني عن بنغازي، بالأحرى عن " الحقيقة"، ما حرص عليها ،وأعجب بها حتى الغرام. قال لي: أفيق من النوم ،وكعادتي أمر على "مدبولي" المكتبة التي تحفظ لي "الحقيقة"، آخذ نسختي وأقرأ بنهم ما جاء فيها، لقد كانت جريدتي التي أنتظرها، فثمة حرفية في التحرير، الإخراج، الطباعة، التوزيع، حيث تخرج من مطبعتها في بنغازي إلى المطار، فتكون ظهرا في ميدان التحرير بالقاهرة. إن مَنْ ينشر "الحقيقة" الرئيس النابه، أن تكون جريدة القارئ، أي قارئ يمكن الوصول اليه، باجتياز كل الصعاب وأن تكون في المستوى، الحقيقة أن "الحقيقة" كانت جريدة، ولهذا كانت جريدتي: أو كما قال الكاتب والصحفي رجاء النقاش.

أعتبرُ ذاك رد اعتبار، لمؤسسة قيمة في تاريخ الصحافة العربية، فجريدة الحقيقة الليبية التي صدرت في بنغازي 1964م، يبدو لي أنها صنو "النهار" اللبنانية، ما كانت حينها المؤسسة العربية الخاصة العريقة، التي يترأى لي أنها كانت النموذج عند مؤسسي "الحقيقة" الليبية: الأخوان محمد بشير الهوني ورشاد الهوني. ومسألة الصنو تؤخذ في إطار أن "النهار" النموذج، التي صدرت في ثلاثينيات القرن العشرين، وتصدر في الواحد والعشرين، أما "الحقيقة" الليبية، فسرعان ما دفنت في جبانة انقلاب سبتمبر 1969م العسكري، حيث اغلقت عام 1971م.
وفي وقت تأسيس "الحقيقة" الليبية، "الأهرام" المصرية، المؤسسة الكبرى في الشرق الأوسط، كانت جريدة قطاع عام، يديرها صحفي كبير: محمد حسنين هيكل، ما كان لسان الدولة وبالأخص الزعيم جمال عبد الناصر، ما لم تكن الدولة الليبية على وئام معه، بل هناك شبه قطيعة بين البلدين حينها، مما جعل الكثير من الفنيين، الذين تحتاجهما الدولة الليبية و القطاع الخاص، من دول غير مصر فكان كثير منهم من لبنان.

"الحقيقة" كاسم لصحيفة، استعير من اسم الصحيفة الأشهر (البرافدا/ الحقيقة)، الناطقة بسم الحزب الشيوعي السوفيتي حينها، لكن الحقيقة الليبية كانت ليبرالية. وملكت "الحقيقة" الليبية نموذجا مغايرا، مع عدم قطيعة مع نموذج الدولة "الأهرام"، فامتلكت مزايا الاثنين، فمن النموذج اللبناني، حرصت على الحرفية المهنية في التحرير والجوانب الفنية، واستعانت بصحفيين لبنانيين، وقد كان لها مطبعتها الخاصة، في مبنى خاص مميز فيه المطبعة والأقسام الفنية، وفيه التحرير والإدارة. ومن النموذج المصري العمل على خلق: صحافة لامعة، بأسماء لامعة، بإسلوب لامع. ولعل من هذا حرص رئيس التحرير رشاد الهوني، أن يكون للحقيقة صوتها ونجمها، فكان الصادق النيهوم من كان الكاتب الصحفي، المميز في: اسلوب الكتابة، المواضيع الساخنة التي يتناول، المتابعة الصحفية والترجمة للمبرز في الحين، ثم سيرة الكاتب، من دعته الصحيفة البريطانية الشهيرة "الصن" بـ"الهيبي"، ومن يقيم في أقصى الشمال بهلسنكي.

الحقيقة كمشروع، صدرت في الوقت والمكان المميزين، فعقد الستينيات عقد قوة صاعدة في المنطقة، وعقد تنموي بامتياز، فما بعد الاستعمار، بدأت التنمية المرتكز، لتحقيق الاستقرار والتوازن، في عالم ما بعد الحرب. ومن هذا في ليبيا وجدت "الحقيقة" الدعم المادي اللازم، لمشروع صحفي مؤسسي طموح، يمتلك مقومات الحصاد، لأن "الحقيقة" كانت في يد جنايني حاذق، يتماس والشاعر، في أنه صاحب خيال خصب، هكذا كان رشاد الهوني القاص/ الصحفي النابه، من يرى أن الخيال أيضا يمكن زرعه، في حديقة البيت التي تنبت العوسج، الذي يدلل على مكنة الحياة.

• الحقيقة النموذج
كنت صبيا لما تنبهت لـلـ"الحقيقة"، وخاصة عددها الخاص، الصادر يوم السبت، العامر بكُتاب نجم النجوم فيهم الصادق النيهوم، سأعرف فيما بعد منهم كتاب من لبنان ومصر، وأعرف أن كتابا ليبيين من طرابلس، جلبوا للعمل بالجريدة والإقامة في بنغازي، كالناثر يوسف القويري والشاعرأحمد الحريري.

وقد شاهدت عند المكتبات والأكشاك طابورا، في انتظار استلام نسختهم من الجريدة، التي رأيت بأم عيني، الأمي يتأبط عدد السبت منها، ليوحي بأنه من قراء النيهوم. وعلى ذلك وجدت نفسي مدمنا على مطالعتها، وإن لم أتمكن من شراء العدد، كنت أتردد على المركز الثقافي الليبي ثم المصري، لأتمكن من الاطلاع على ما فاتني. وقد وجدت فيها ما شدني اليها، فعرفت كتابا ليبيين قرأت لهم، خاصة مما كُتب عنهم، وعرفت فيها كتابا جددا، وصحفيين متألقين كعبدالرازق بوخيط.

من لزوم ما يلزم، تقول "الحقيقة" آنذاك:على شاب في مقتبل العمر، في ريعان الثقافة، أن يكون كاتبا، صحفيا، وأن ينشر اسمه على صفحاتها، فالحقيقة أنها كانت أرضا خصبة لهكذا زرع. لهذا وجب أن أنشر ما أكتب في الحقيقة، كنت في السادسة عشر من العمر، المراهق المتردد الجسور، من لا تنقصه حيلة كحامل لكوجيتكو شكسبير: نكون أو لا نكون. وللهولة الأولي كتبت مقالة، ولتوكيد النشر، استعرت حيلة، لبسها كتاب عدة قرأت لهم، أن أكتب باسم مستعار، وأن تكون الاستعارة اسم مرأة، لهذا كان أول مقال لي، نُشر في جريدة الحقيقة، وعلق عليه المحرر المسئول على الكتابات الجديدة، الشاب السنوسي الهوني أصغر الأخوة، من قرأت مجموعته القصصية "قبل أن تموت"، من يعجبني ككاتب، ومن صار صديقي فيما بعد، وكان مقالي الأول ذاك ختام "الحقيقة"، ما بعد نشره بأيام أغلقت، ثم أعقبها تأميم الصحافة، الذي لم يكن له علاقة بالمقالة بطبيعة الحال، لكن بالنسبة لي كان ذلك: فأل نحس.

وفي الختام، لو قام أحد في مقام الحقيقة، بالدراسة والبحث، لو أن الجامعات الليبية وحتى العربية، وجهت طلبتها لدراسة مقام الحقيقة، لتبين أنها في مقام النموذج، ما ينبغي آخذهُ في الاعتبار، من حيث الطرق والسبل الناجحة، ما جعلت منها مؤسسة، قيمة في فترة وجيزة وصعاب جمة.