Atwasat

مراجعة ربما فات أوانها

آمنة القلفاط الثلاثاء 30 يونيو 2020, 02:05 مساء
آمنة القلفاط

من المستغرب أن تنحرف ليبيا إلى هذا العنف والاتجاه الدموي الذي طال ويزداد تعقيدا مع الوقت. كانت البداية تبدو مبشرة بالتغيير نحو استقرار مهيأة له الأسباب في دولة غنية بعيدة عن الصراعات الطائفية. لكن الأكثر استغرابا هو قلة الوعي العام الذي قاد البلاد للدخول في هذا المنحرف، نتيجة لضبابية وضوح الدوافع الحقيقية التي أدت لهذا الانجراف الحاد في مسار الدولة. تبدو التجارب السابقة لبعض الدول حاضرة في الأذهان، فلبنان وافغانستان والعراق والصومال وسوريا واليمن دول خاضت صراعات داخلية، ليست بعيدة عنا وكان من الممكن بسهولة الاستفادة من تجاربهم الفاشلة والحروب الأهلية وفي آلية القبول بالتدخلات الخارجية، فلو عُرفت المقدمات التي انتظمت لعُرفت اسباب الفشل، هذا إذا كان الوعي العام مدركا بما يكفي لآلية تسيير الأمور.

أخفق المجتمع الدولي، كما أخفق الناتو الذي شارك في التخلص من النظام السابق في دعم ليبيا ولم يقدم أي عون في سبيل المساعدة في جمع السلاح وإعادة ترميم مؤسسات الدولة الأمنية وفرض سيادة القانون، وهو أمر اعترفت به دول عديدة ومؤسسات دولية متعددة بإقرارها أن الثورة الليبية تقتل أبناءها، أما المجتمع الدولي ففشل في واجب اتمام المهمة لثورة قام بدور محوري في نجاحها.

يعتبر العام 2014 بداية انحراف مسار الدولة الليبية لتتحول إلى صراع دموي استمر وازداد تأزماً وصولاً لوضعنا اليوم. شهدت ليبيا خلال سنة 2014 عمليات تصفية جسدية طالت أكثر من 250 شخصية، منهم أكثر من 120 شخصية عسكرية، منها شخصيات من كوادر عسكرية مرموقة، فيما بلغ عدد من تم اغتيالهم من شخصيات مدنية وحقوقية ما يقارب من 100 شخصية طالت نشطاء وصحفيين وحقوقيين. العدد الأكبر من الضحايا كان في شرق البلاد. استمرت كرنولوجيا الاغتيالات في تلك السنة والتي لم تستثني أحد والقاتل دائما مجهول.

في تصريح لمنظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية الدولية تقول فيه: إن عمليات الاغتيال ذات الدوافع السياسية في مدينتي بنغازي ودرنة بلغت 250 عملية على الأقل خلال العام 2014 الذي سمي عام الاغتيالات. في منتصف عام 2014 أُعلن عن انطلاق عملية الكرامة بهدف محدد هو التخلص من مرتكبي عمليات الاغتيال، وكان المتهم الموجه له تهمة ارتكاب هذا الكم من جرائم الاغتيالات وترهيب المدن الليبية هم الجماعات الإسلامية الموجودة في شرق البلاد وغربها، أو ما أُطلق عليه الإرهاب في تعريفه الفضفاض، دون وجود دليل حقيقي على صحة هذه الاتهامات. فتحولت الجهود، من جهود كان من المفترض أن تتوجه وتتحد للبناء والتعمير وإقامة مؤسسات دولة فاعلة وذات مصداقية، إلى صراع بين طرفين أحدهم يمثل ويشمل جل الجماعات الإسلامية المتطرفة والاقل تطرفا وشباب شارك وساهم في الاطاحة بالنظام السابق، وطرف آخر يرى في هذه الجماعات معرقل لقيام الدولة والمتهم الأول في عمليات الاغتيالات والفوضى، وبين الفريقين انقسم الناس بين مؤيد ومعارض، مصدق ورافض للاتهامات التي سيقت دون دلائل وتحقيقات مستوفية، وعندما تُبنى القرارات على غير الحقيقة تصبح كل النتائج عرضة للشك.

يقول آرثر سالز برجز أحد مؤسسي جريدة النيويورك تايمز: إن رأي أي انسان في أي قضية لا يمكن أن يكون أفضل من المعلومات التي تقدم له في شأنها، احجب المعلومات الصحيحة عن أي انسان أو قدمها له مزيفة ومشوهة فقد دمرت كل جهاز تفكيره ونزلت به إلى ما دون مستوى الإنسان. المعلومات الصحيحة قد تُعرض الإنسان للخطأ لبعض الوقت، لكن فرصة الصواب تكون في يده للأبد.

صَدق الناس في المجمل دعوى أن الجماعات الإسلامية هي المسئولة عن كم الاغتيالات التي تمت في مناطق ليبيا المختلفة وخصوصا في شرق البلاد، ولم تسعى ولم تحاول الجهات المختصة البث في هذه القضايا والوصول إلى الدوافع والمسبب الفعلي ومن المستفيد من وراء هذه الاغتيالات. عملية الكرامة بدأت بملف الأمن وهو ملف انتظره الليبيون طويلا، ويبدو مقنع ومنطقي، خاصة بعد سلسلة الاغتيالات المروعة، لكنها لم تلبت أن تحولت إلى اداة للاستيلاء على الحكم وعسكرة الدولة. تمت الاستعانة بقوة خارجية عديدة ومختلفة للوصول لأهدافها التي كُشف عنها بعد الهجوم على طرابلس وطلب زعيم الكرامة التفويض لحكم البلاد. الملفت في الأمر أن بعض الناس لازالت تصدق أن الجماعات الاسلامية هي المسؤولة عن الاغتيالات وأن عملية الكرامة جاءت لتخليص البلاد من شر الارهاب.

يبدو ان الامر قد خرج من ايدينا الى ايدي الحلفاء الذين ادخلناهم الدار ولا ندري متى يخرجون، وقد نرى تدخلا أكبر لدول أكبر كانت بعيدة عن العزف وتمارس دور قائد الاوركسترا الذي ينظم العازفين عن بعد.

إن ما تدفعه البلاد من ثمن مقابل اتهامات غير واقعية وغير مثبتة هو ثمن فادح. حرب أهلية بدأت ولا يعرف أحد متى تنتهي، تدخل دولي سافر في شئون البلاد الداخلية حتى أصبح هذا المتدخل هو الآمر الناهي في البلاد، خراب في البنية التحتية، موت ودمار وفساد طال كل مؤسسات الدولة، نزوح للأهالي وحرب بين المدنيين. تبدو مجريات الأمور تتجه بسرعة نحو اشد من ذلك مع ازداد التهديدات بين الطرفين المتصارعين. تمزق في النسيج الاجتماعي للبلاد مع اصطفاف لا يستند على حقائق واضحة. قد يجد أطراف الصراع الليبي أنفسهم بكافة توجهاتهم وجها لوجه أمام دول متعددة جاءت لبلادهم للبحث عن مصالحها بذريعة حماية أطراف الصراع، يجدون أنفسهم عاجزون معا عن صد ودحر عدوان جاء به من سيفر من البلاد بعد أن نفذ مصالح الدول المتدخلة من حيث يدري أو لا يدري...