Atwasat

أيديولوجية الوطن أم وطن الأيديولوجيات؟ (2- 2)

أحمد معيوف الأحد 28 يونيو 2020, 10:53 صباحا
أحمد معيوف

وبعيدا عن الشطحات الإلحادية للحزب، أشير إلى ما يهمنا في سياق سلطة الأيديولوجية، تحديدا إلى المادة السادسة من مبادي الحزب والتي تقول: "حزب البعث العربي الاشتراكي حزب انقلابي يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال... وأن الاعتماد على التطور البطيء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع".

من الواضح من هذا المبدأ ان حزب البعث – كغيره من الأحزاب القومية- حزب شمولي لا يختلف عن الأحزاب الدينية، يرفض الآخر ويعمل على إقصائه بالقوة إن تمكن، ويرى في الانقلابات أداة لتحقيق طموحاته وأهذافه وبالتالي لا يؤمن بالعمل السياسي الديمقراطي الذي تتسع فيه ساحة الوطن للتنافس، ولا يتعدى إيمانه بالعمل السياسي حدود ما يسمح به هذا العمل السياسي من مساعدته وتمكينه من الوصول إلى السلطة. هو لا يختلف عن التيار الإسلامي السياسي، الذي يسعى إلى السلطة لتحقيق ما يراه من أهذاف لا تتحقق له وهو بعيد عن السلطة. ولعل أخطر مبادئ حزب البعث (وربما كل الأحزاب القومية تشاركه هذا المبدأ) المادة الحادية عشرة من مبادئه والتي صيغت على النحو التالي: "يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب".

لا يخفى عن عاقل أن هذا المبدأ مبدأ شوفيني صرف وهدام يهدد السلم الاجتماعي، وقد يسبب في كوارت ونزعات وحروب أهلية، ذلك أن ما اصطلح على تسميتها بالبلاد العربية بحكم تجذر اللغة العربية فيها بسبب تأثير الدين تسكنها أقوام أخرى غير عربية، أقوام العديد منها يتطلع إلى أن يكون له حضوره في الساحة على قاعدة المساواة في المواطنة. وللأسف رغم فشل الحركات القومية العربية وانحسار مريديها، إلا أن الولاء للفكر القومي ما زال يضع كل من يخالف هذا الفكر في خانة العدو وليس خانة الخصم السياسي - خلافا لدول الغرب التي تجاوزت الخلاف الأيديولوجي بتبنيها خيار المواطنة - وبذلك هو يعمل على تضييع فرص التعايش مع الخصوم السياسيين. لذلك نرى أكثر المدافعين عن أنظمة الاستبداد التي ثارت عليها شعوبها في العام 2011 هم القوميون العرب من ناصريين وبعثيين وأنصار نظام معمر القذافي، بسبب أن هذه الانظمة التي انقلبت شعوبها عليها كانت تحمل شعار القومية العربية. بل مازالوا... تحت سلطان الأيديولوجية القومية وأحيانا اتخادها كشعار فقط... يدافعون عن الردة والثورات المضادة لانتفاضات الربيع العربي. وقد برز هذا واضحا في موقف القوميين من الأحداث التي تلت الثورات، فهم لا يخفون عداءهم – وليس خصومتهم- مع تيار الإسلام السياسي، بل يباركون كل محاولة للقضاء على هذا التيار ومحاولات إقصائه.

هذا السلوك الإقصائي للتيارات الآيدلوجية إسلامية التوجه كانت أو قومية أو حتى مدعي الليبرالية، يجعل هذه التيارات قابلة للانحراف بشكل واضح نحو الاستبداد، ويجعل حلم الديمقراطية الذي سعت الثورات والانتفاضات إلى تحقيقه مجرد حلم طوباوي يتلاشى في ظل هيمنة الأيديولوجيا وخدمتها عوضا عن خدمة الإنسان نفسه.

لم تكن الجغرافيا على هذه الدرجة من الاستقرار من بعد مرحلة الاستعمار، فالحدود الجغرافية الحالية مستقرة تقريبا لما يزيد عن النصف قرن، وهذا لم يسبق أن حدث في الماضي. فالإمبراطورية الرومانية شملت كل جنوب أوربا وساحل شمال أفريقيا بالكامل بالإضافة إلى إنجلترا، وكان البحر الأبيض بحرا رومانيا بلا شريك، وفي عهد كركلا ابن الإمبراطور سبتيميوس منحت حق المواطنة لكل سكان الإمبراطورية. والامبراطورية العثمانية تقريبا حكمت نفس الرقعة الجغرافيا التي حكمتها روما مساحتة. واستطاعت البرتغال أن تسيطر على جل قارة أمريكا الجنوبية وتنشر لغتها بها، كما سيطرت على أجزاء كبيرة من أفريقيا ووصلت سلطتها إلى حدود الصين وجنوب شرق آسيا. واستعمرت إسبانيا أجزاء كبيرة من الأميركتين. وأصبحت الشمس لا تغيب عن أراضي الإمبراطورية البريطانية من فرط اتساعها. لكن مع منتصف القرن العشرين انحسرت كل هذه الإمبراطوريات وانكمشت إلى حدودها الإقليمية الحالية التي لا يكاد بعضها يظهر على الخارطة. وتكون الوضع الجغرافي الحالي بالحدود الوطنية للدول الإقليمية التي نراها الآن في مختلف بلاد العالم، وقد وضعت هذه الحدود لتحمي مصالح الدول التي سادت وتسود العالم في العقود الأخيرة من القرن الماضي وهذا القرن.

وإلى أن تتبدل مصالح الدول القادرة، وتنتج حروبا تعمل على إنتاج حدود جغرافية أخرى، سيظل موطن الإنسان هو هذا الحيز الجغرافي الذي نسميه بلادنا ووطننا، وندافع عنه ونسعى لأن يظل متحررا متمتعا بسيادته الوطنية. لكن، في تقديري أن أجل مظاهر السيادة الوطنية، يظهر واضحا في رفاهية المواطن وتحريره من الحاجة، وتمكينه من التعبير عن نفسه، فإن غابت هذه المظاهر لا يكون للسيادة معنى ويغيب بالتالي مفهوم الوطن، سواء كان النظام المهيمن تسري فيه دماء المواطن أو دماء الأجنبي، فالوطن ليس الجغرافيا بل ما تحققه هذه الجغرافيا من منافع للإنسان الذي يقطن هذه الجغرافيا، وربما نرى هذا الأمر جليا في المجتمعات البدائية الرعوية قبل عصور تكون الدول الحديثة، فالجماعات الرعوية تنتقل خلف قطعانها إلى مواطن الكلأ، وكل الأرض التي يتواجد فيها العشب الذي يغذي حيواناتهم هو أرضهم ووطنهم. آيدلوجية الوطن إذاً هي تلك الآيدلوجية التي تنادي بــ "المواطن أولا"، تنادي بكرامته كإنسان له حق الانتفاع بمقدرات وطنه دون تمييز، له حق في أن تتساوى فرصته في الحياة كغيره من شركائه في الوطن، له حق التمتع بالحرية الكاملة في ظل القانون. وفي هذا يظهر الفرق جليا واضحا بين أوطان الآيدلوجيات التي تخدم الفكرة وآيدلوجية الوطن الذي يخدم الإنسان. لهذا، على الإنسان الصادق أن يضع نصب عينيه أن الأوطان ليست اوطانا للأيديولوجيات وإنما هي أوطان لتحقيق منافع للإنسان الذي تنتصب قامته فوق أرضه، علينا أن ندافع عن أيديولوجية الوطن وننبذ وطن الآيدلوجيات حتى يعيش إنساننا كريما فوق تراب وطنه.