Atwasat

المعنى والصدى

عبد السلام الزغيبي السبت 27 يونيو 2020, 04:27 مساء
عبد السلام الزغيبي

في معرض الكتاب الذي تستضيفه القاهرة عادة مع مطلع كل عام٬ حصلت على نسخة كهدية من كتاب صديقي وزميلي جمال حيدر بعنوان‫:‬ "المعنى والصدى‫..‬ في الأدب والفنون والمعرفة" الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر‫.‬ ويعتبر الكتاب الجزء الثاني بعد صدور الجزء الأول "المعنى والظل" العام الماضي‫.‬

جمال حيدر الذي تقاسمت معه العمل الصحفي لسنوات عدة في أثينا٬ استطاع في كتابه العودة بنا إلى مقالات قديمة جمعها في هذا الكتاب، وهي مقالات٬ كما يقول٬ دوّنت في مناخات وأزمنة وأمزجة مختلفة.. فالكتابة بنت شرعية تخضع لتلك الشروط٬ وليس من نص.. أي نص٬ خالد على الإطلاق وفقاً لرؤيتي وتجربتي المتواضعة.

مضيفاً "انحصر همي في استعادة تلك السعادة التي غمرتني في زمن كتابة تلك المقالات٬ كذلك استثارة الأسئلة التي طرحتها في محاولة جادة لملامسة المعرفة والكشف عما هو مخفي بعيداً عن أي التباس. في هذه المقالات لست معنياً باعتراف بقدر ما كنت معنياً بكتابة المخبوء.. وغير المرئي والمقروء عادة لدى المتلقي".

يدوّن المولف في مقدمة كتابه، المهدى إلى شقيقتيه‫:‬ هاجر ومنيرة "ليس للمعنى دلالة ثابتة، فهويته قابلة للتأويل، ودون ذلك التأويل يضع النص.. أي نص، حداً لروحه ومعانيه، وهنا تكمن أهمية الولوج في المعنى لاختراق معانيه والكشف عن أسراره المخبوءة. كاشفاً أن المقال الجيد يتميز في تداخل روحه مع القارئ واحتياجاته المعرفية لسد فراغات الأسئلة التي تولدها انزياحات حياتية عدة، وتكمن أهميته في حضوره ضمن حياتنا اليومية، فالمعنى المعزول وغير المتواشج مع تفاصيل القارئ غير قابل للحياة"‫.‬

يضم الكتاب أربعة محاور، وهي‫:‬ نصوص، قراءة٬ معرفة، وأمكنة‫.‬ في نصه الأول يدخل بنا الكاتب من دون شفقة أو رحمة، ليتركنا نواجه الحزن واللوعة بمفردنا‫:‬ "أترك أبي وحيداً في عزلته الموحشة"، يحكي لنا في سرد جميل، خطواته الأولى أثناء زيارته للمقبرة التي وارى الثرى فيها والده‫:‬ "خطواتي الأولى في مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف كانت مربكة، ثمة صمت جليل يكلل المكان، إنه صمت الموت وسكون الموتى، مع كل خطوة في أعماق المقبرة يتصاعد عويل يعصف بجسدي ويترك ظله المنكسر على الأرض الساخنة". تلك المشاهد المؤلمة عشت مثيلها تماما في مراسم دفن أمي في مقبرة بنغازي نهاية السبعينيات من القرن الماضي، كذلك في زيارتي الأولى لقبرها مطلع التسعينات بعد عودتي إلى البلاد‫.‬

في نصه الثاني المعنون‫:‬ " تفصيل من حوار طويل" يستعرض المؤلف الكتابة باللغة العربية والثقافة ودورها في المجتمع، وينتهي بقوله "كل ما يمكن قوله إن رياحاً تمتطي أحلامنا، تنوي اقتلاعنا من جذورنا، هل ستنجح في مسعاها؟".

"بهجة مطرزة بالكتمان" وهو النص الثالث في المحور ذاته، يغرق الكاتب في تلاليف الحب المكتوب بشكل نثري جذاب‫.‬ تتوالى النصوص ليأتي النص السابع بعنوان‫:‬ "اعترافات قبل ان تسود العتمة" يحكي فيه عن طفولته وعلاقته بوالده، وذكرياته في المدرسة، والخجل الذي لازمه والمعلمين والمدرسين الذين تأثر بهم وأثروا فيه، وعن مغادرته العراق وعن غربته وحياة المنافي المختلفة، وعن همه الأول والأخير المتمثل بالقراءة والكتابة وما أحدثه ذلك الهم من تغيير شاخص في حياته.

المحور الثاني "معرفة" تتوزع العديد من المواد‫:‬ جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة٬ هولوكوست الغجر٬ غرف نومنا.. تاريخ من الأسرار والحميمية، رواية أميركا اللاتينية.. صانعة الدهشة والثورة، ثقافة الهيبيز.. المعرفة المضادة٬ هل تقدمت الرواية على حساب الشعر في المشهد الثقافي العربي؟.

في جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة، يقول حيدر: "أن الثقافة المتحررة هي تلك التي تعزز وجودها في نشدان قيم العقل والحرية والعدالة، وهي قيم لا تبلى حداثتها، مرسية دعائم لأصالتها وانفتاحها على الأسئلة، بعيداً عن العقائدية الراكدة والشمولية والوصايا السياسية".

وفي "هولوكست الغجر" يبرز الكاتب النهج المتميز في سياسة التطهير العرقي ضد الغجر باعتبارهم سلالة منحطة لا تستحق أن تحيا وتشارك بقية الأقوام البشرية الحياة، وفقاً لسياسة التمييز العنصري، تلك التي تتظاهر الشعوب في أرجاء المعمورة ضدها هذه الأيام إثر مقتل الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد‫.‬

وفي مادة "رواية أميركا اللاتينية" يبدي المؤلف، إعجابه بأدباء أميركا اللاتينية الذي تحدوا القواعد التقليدية التي سنها الأدب القديم لتتصف إبداعاتهم بالجرأة والغور عميقاً في بواطن المجتمع وصراعاته في شكل متناقض تماما مع الواقعية الأوروبية٬ كذلك الابتعاد عن المسار الأميركي٬ حيث أطلقت هذه الحركة العنان لحرية الخيال إلى مداه الأوسع‫.‬

وفي "ثقافة الهيبيز.. المعرفة المضادة " يقول حيدر: "تبلورت ثقافة الهيبيز باعتبارها معرفة مضادة للسائد المتحكم بتلابيب الذوق العام، وحالة رد فعل واضحة المعالم عن الثقافة المترسخة منذ عقود طويلة، وخلال العقد الفاصل بين خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تعززت خطوات المعرفة المضادة في مسار تفاصيل حياة الأجيال الجديدة إثر التغير الذي لامس طريقة تفكيرها وتمايز رؤاها، لتتبلور تاليا بصورة مغايرة انطبع عصر كامل بملامحها".

وفي محور "‫قراءة‬"‫ تتوزع العديد من المقالات٬ ومنها‫:‬ الصوت النسوي في الرواية الأفريقية، روزا لوكسمبورغ.. ما يعينه لنا ذلك الغياب المبكر حاضراً؟ صموئيل بيكيت.. الوجه الخفي من الانتظار المرير، من يملك كافكا حقاً؟ في الصوت النسوي الروائي الأفريقي نقرأ: “الافتقار للمعرفة الكافية بإبداع الأدب النسوي الأفريقي يشكل فجوة لأية ثقافة، وفي هذا الإطار لابد من الاعتراف بأن النظرة للإبداعات الأفريقية ما زالت مشوبة بنوع من الفضول القديم المغرم بالغرائب رغم ثرائها وتنوعها وامتدادها على مساحة القارة بأكملها.‬

وفي مادة "روزا لوكسمبورغ"، يستشهد الكاتب باقوال وأشعار عن مأساة المناضلة اليسارية لكسموبورغ، إذ كتب المسرحي الألماني برتولد بريخت يرثيها‫:‬
اختفت روزا الحمراء الآن
لا يمكن للعيون أن ترى مثواها.
علّمت الفقراء معنى الحياة
لهذا محاها الأغنياء.

في مقال صموئيل بيكيت يكتب المؤلف عن زيارته لدبلن عاصمة إيرلندا ووقوفه أمام صرح كلية "ترتني كوليج" الذي تفوح منه رائحة العلم والأدب والمعرفة، منتظراً الكاتب الإيرلندي الشهير صموئيل بيكيت الذي تلقى دروسه فيها أن يلوح له من بعيد. أوراق امتحاناته المحفوظة لغاية الآن تشير إلى ريادته وهوسه بالقراءة. بيكيت الكاتب العبثي المتواري وراء خجله وعزلته وطول قامته، مواجهاً عذابات الوجود وأسئلته، لا زال ماثلاً أمامنا بكل صلابة رغم كل الأعوام التي تفصلنا عن غيابه.

وفي المحور الأخير المعنون‫:‬ "‫أمكنة‬"‫ يكتب حيدر‫:‬ "أفترش المدن التي أزورها، أتسكع في دروبها وحاراتها، تدفعني رغبة محمومة بولوج أبوابها المغلقة، والبوح بأسرارها.. سائرا صوب الأواصر التي توشج شكلها المرئي وجوهرها المخفي".‬

وفي "بغداد.. العودة إلى المكان الأول "يكتب المؤلف: في رحلة العودة إلى الوطن إثر غياب قسري امتد لفترة زمنية طويلة من الأعوام، تبدأ باستقصاء الأمكنة والأحداث المخزونة في ذاكرة الأيام، إذ إن ثمة دورات زمنية كاملة عاشتها المدينة في غيابك، مشاعر مضطربة تخالجك وأنت المتوجه إليها، ارتباك ولوعة وشوق.. وفاصل زمني وروحي بين الماضي ـ الحلم، والحاضر الماثل الذي لا تنتمي إليه".

وفي لندن٬ مكانه الثاني، يصفها الكاتب باعتبارها عاصمة المتناقضات، حديثة وتقليدية، غنية بالبدع الطليعية وتلهث في الوقت ذاته وراء القديم، وينعكس ذلك التناقض جلياً على إيقاع زمنها وخطوات حياتها. الندنيون مشهورون بتنوع أطوارهم وأهوائهم. وابتداءً من ريادة الاختراعات العلمية إلى جلسات قراءة الطالع واستحضار الأرواح.. ومن موجات البنكس الغرائبية لغاية ربطة العنق الملازمة للموظفين على مدار العام.

كتاب يستحق القراءة حقاً، لأن جميل حيدر، كما في كتبه السابقة، يكتب بحبر قلبه وبمثابرة لافتة‫.‬