Atwasat

أبخس من رصاصة

رافد علي الخميس 25 يونيو 2020, 04:02 مساء
رافد علي

تسود واقعنا العربي حالة نزاع مفتوح بين دعاة الحاضر وأنصار القديم بحيث تبقى الحالة منذ بروزها حالة تأزم غير محسومة، فلا نحن بالقديم ولا نحن بالحديث، وأضحينا بشكل جلي نعيش بين البينين كما يرى بعض البُحاث والأكاديميين تأسيساً على تعمق الفجوة بين التيارين. فأنصار القديم يضعون من السلف الصالح معياراً أبدياً بشكل تسعفي أحياناً من الناحية النظرية، فالسلف الصالح من الناحية البشرية يبقون خطائين بإثباتات الواقع التاريخي, فمن الصحابة من كان منافقاً باعتراف القرآن وحتى متواطئاً ضد المجتمع الإسلامي، كما أن المجتمع الإسلامي بالمدينة المنورة لم يكن بذاك النقاء الأسطوري، فالقرائن والأدلة تشير بغير ذلك بشكل قاطع ومحسوم. فمجتمع المدينة ظل ينهش في عرض الرسول المصطفى حينما اتهمت زوجته السيدة عائشة بالزنا في قضية الإفك المعروفة، حتى تدخل الوحي لإصدار حكم براءة رباني للسيدة المتهمة «1»، ووضع ذات المجتمع شرف السيدة مريم، ماريا القبطية، زوجة الرسول، وأم ابنه إبراهيم، على المحك باتهامها بالزنا مع «صالح القبطي» حتى ثبت أنه كان «مخصياً» أو «مجبوباً» حسبما تثبت الروايات التاريخية.«2».

دعاة الحاضر، بشكله التغريبي تحديداً، لاشك بأنهم يأتون بمقاسات لا تخلو من الهرطقة الفكرية من جهة، كونها تنادي بتغير جذري كما لو أننا ننزع قميصاً لنكتسي آخر بكل سهولة، ومن جهة أخرى يشتمل الطرح التغريبي على اعتباطية في الطرح وكأننا شعوب لا تمتلك خصوصية ثقافية بكل ما فيها من تعقيد وتناقض أحياناً، في هذه الزاوية يبرز طرح سلامة موسى حينما دعا لأن نلتحق بالغرب وبشكل عاجل من خلال مقارباته للعرب باليونان متناسيا عصور قريبة اختلط فيها العرب بالأتراك!. البورقيبية في تونس، مع إدراج الصف المحافظ ببلادنا المسلمة لها بأنها تيار تغريبي بالمنطقة، فإن نقداً موضوعياً يوجه للبورقيبية بأنها كانت «تحديثا من فوق» أو بقرار سياسي، وليس مداً في ثقافة مجتمع يسعي لخلق قيم جديدة له ضمن حوار فكري ومجتمعي لا يخلو من تدابير الإقصاء الممنهج والمسيس، وأمام السلفي والحديثي ظهر التيار التوفيقي الذي يسعي للأخذ بما يناسب الثقافة العربية من حداثة الغرب بما يضمن خصوصية الثقافات العربية القطرية للمجتمع العربي باختلاف دوله.
هذا التنازع الفكري بين الديني والمدني أو اللاديني، والذي لا زال مستمراً اليوم لا زالت الأشياء فيه لم تحسم بوضوح، فمنذ الطرح النهضوي في تيار الأفغاني وعبده والكواكبي وصولا لأصحاب أطروحات الفكر العربي المعاصر كالجابري واركون والأخضر وحنفي وشحرور وطرابيشي وعقل والعروي وأدونيس وغيرهم من الأسماء التي حاولت خلق مشروع يتجاوز المحنة التي نعيشها في دولنا الحديثة بعد عصر الاستقلاليات بكل حالة الاغتراب فيها كظاهرة بارزة في المجتمعات العربية الحديثة باعتبارها عاجزة عن إحداث التغيير المطلوب في حياتها بدل الاكتفاء بالبحث عن سبل التكيّف مع واقعها الخارج عن سيطرتها. لقد عرف هيغل الاغتراب ضمن مفهوم حالة العجز المجتمعي هذه عندما استخدم كلمة الاغتراب بالألمانية Entfremdung،، Alienation في الإنجليزية. هيجل في كتابه Phenomenology of mind ركز علي وجود وحدة راسخة بين مجموع الناس المختلفة في وعيهم الخاص لأجل أن يتجاوزوا الصدامات والاختلافات فيما بينهم وخلق صالح عام يجمعهم يتجاوز حالة التناقضات الطبيعية القائمة بين جموعهم مما جعلهم عاجزين عن السيطرة على أوضاعهم ومنتجاتهم التي أصبحت تخدم غيرهم وترسخ صالحه بعيداً عنهم. الفكر الأوربي في تناوله الهادئ للاغتراب في بعده الديني أو الفلسفي سينعطف به ماركس لاحقاً بشكل جذري عندما أقحم البعد الاقتصادي في الاغتراب من خلال مذهبه المادي بحيث يبقي الإنسان غير قادر أو عاجز علي السيطرة علي منتجاته في الحياة العملية، إذا سيصبح الفرد عبداً للمنتج الذي يصنعه بما يفقده السيطرة علي مجريات حياته في المجتمعات الرأسمالية.
في عموم الحال ظل الاغتراب - كموضوع - دائماً طرحاً مثيراً في أفكار الفكر الأوربي ومع ذلك يظل اليوم موضوعاً متشعب غير محدد، وذلك لاتساع حالة تماس الظاهرة مع أوجه متعددة في حياة الأفراد والمجتمعات. فهي بارزة في أبحاث الفلاسفة وعلماء النفس، والإخصائيون الاجتماعيون بسبب تنوع النظريات التي يرتكز عليها الاغتراب كظاهرة أو كحالة. والاغتراب حتى لا نُغرق في النظريات بشكل مبسط ومختصر هو عجز المجتمع عن مواجهة تحديدات عصره.
الاغتراب كموضوع فكري أو فلسفي وكظاهرة نفسية واجتماعية تعيشه مجتمعاتنا العربية بشكل ملفت من خلال مجريات واقعنا المعاش من حيث العجز الواضح في السيطرة على مجريات واقعنا الذي تتجدد فيه النكسات والانكسارات وتتابع الهزائم الحربية والنفسية على امتداد القرن الماضي وصولاً لتدشيننا العقد الثاني من هذه الألفية التي تعد فيها الربيعيات العربية بكل أزمتها طافحة على وجه المشهد المرتبك سياسياً بكل تبعاته على كافة المستويات. لقد برزت كتابات الدكتور حليم بركات في الاغتراب قبل ذلك كَجهد عربي متميز في تغطيته كحالة أو ظاهرة داخل المجتمعات العربية عموماً محاولاً أو طامحاً في التعاطي مع الاغتراب كمشكلة عصرية لها تعقيداتها وروافدها منذ عقود طويلة خلال مسيرته الأكاديمية ببلاد العرب أو عند انطلاقته بالولايات المتحدة منتصف القرن المنصرم.

يري بركات في دراسته الاجتماعية الميدانية المجتمع العربي المعاصر أن واقع المجتمعات العربية هو واقع مُغرّب مما يحيل الشعب إلى كائنات عاجزة لا طاقة لها في السيطرة على مفاصل أمرها وحياتها. فلا يسيطر المجتمع العربي ككل على موارده، ولا على مؤسساته التي منحها الحياة في ظل دول العرب التعسفية، كما أن المجتمع العربي مجتمع غير متجانس ويميل للتمسك بفسيفسائه من خلال تبجيل الطبقة 2 / 2
أو الفئة أو المذهبية أو الجهوية أو القبلية باعتبارها حقائق اجتماعية تتعزز قدسيتها في الذهنية العربية. والمجتمع العربي أمام الغزو الثقافي قد يتمسك بالماضوية وقيمها باعتبارها صمام أمان من حالة الحداثة (3) اللامعلومة له في ماضويته أو سلفيته التي يقدسها بمبالغة كبيرة (4) بما قد يصيب المجتمع العربي بالصدمة لإدراكه أنه يعيش حالة اللامعيارية أو انعدام القيمة anomie أمام حالة الانحلال الأخلاقي في مفاصل حياته (5) وعجزه في ابتكار أو خلق قيم بديلة وناجعة طالما أنه يشهد قيمه القديمة تنهار ولا سبيل له في صيانتها بشكل حيوي وفعّال فيلجأ إلى العزوف أو الهروب أو للخنوع و اللامبالاة لإراحة باله من صداع ويلات محنة هذا الواقع.

المواطن والمجتمع في سورية وليبيا واليمن الذي عاشر الاغتراب بعزوفه عن ممارسة دوره السياسي أو الهروب في مواجهة وواقعه اليومي لانسداد أفق التغيير والتجديد، أو حتى من خلال الإصرار على تمثيل دور اللامبالي وهو يسعى لكسب رغيف خبزه، يظل اليوم ذاك المواطن تحت ضربات المدفعية والطائرات ليس مغترباً عاجزاً عن تفاصيل المهلكة التي يرى فيها وطنه مترنحاً وحسب، بل يجد نفسه بشرا أرخص من ثمن رصاصة صاخبة سياسياً في حسائه المر. لم تعد الثورة وحدها حلاً لتجاوز الاغتراب العربي كما يرى بركات بعيداً عن عنصري التنمية وإقامة وعي أعمق بالعالم الذي نعيش فيه، ومنح للأوطان التي نحيا فيها حيزاً أعمق في وجداننا لخلق ثقة أوثق لها ولحياتنا.

الهوامش:
1. الآية 9 من سورة النور التي تبرئ السيدة عائشة من قضية الإفك.
2. الطبقات الكبرى لابن سعد وتاريخ الطبري والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي.
3. حليم بركات. المجتمع العربي المعاصر. بحث استطلاعي اجتماعي. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. لبنان. الطبعة السادسة. 1998
4. أدونيس. الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والإبداع عند العرب. دار العودة بيروت 1975.
5. حليم بركات. الاغتراب في الثقافة العربية. الطبعة الأولى. مركز الوحدة العربية. 2006. بيروت لبنان.