Atwasat

دائرة الضوء ومحيط الظلام

سالم العوكلي الثلاثاء 23 يونيو 2020, 09:03 صباحا
سالم العوكلي

أثناء الأحداث الكبرى والصراعات الدموية وغير الدموية كثيرا ما تظهر علينا مواعظ لا عقلانية تدعو للتعقل، أو إعمال العقل، أو تحكيم العقل والجلوس إلى طاولة المفاوضات، أو تسجيل المواقف المريحة بالدعوة إلى الحل العقلاني والحوار، وكأن هذه الأحداث أو الصراعات يقودها العقل فعلا. أوروبا التي انتصرت للعقل عبر أدائها الفكري والفلسفي أثناء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأضاءت عصرها المظلم بما سمته التنوير العقلي، وأحست أنها رست على بر الأمان حين أصبحت مقولة «تحكيم العقل في كل شيء» شعار منجزها المعرفي، رغم ذلك استهلت القرن العشرين ثم منتصفه بحربين كارثيتين أودتا بحياة أكثر من 50 مليون إنسان، وكان قبلها قد وجه فرويد ضربته لنرجسية العقل الإنساني حين وصفه مجرد جزيرة طافية وسط محيط من الغرائز وقوى اللاوعي، أو كما يقول المثل الألماني: «في وسع معتوه أن يرمي بحجر في البحر يعجز عشرة حكماء عن استعادته».

البعض ما زال يعتبر أنه لولا هذه الحروب وهذا التدافع والصراعات لما حثت البشرية مسيرتها قدما، ولما تحقق التقدم الذي نتباهى به الآن على كل الكائنات، وبعض المتفائلين في قلب المقابر عددوا بالأرقام الفوائد التي نتجت عن هذه الحروب الكارثية، سواء في المجال العلمي أو الطبي أو نظرة الإنسان لمستقبله عموما وإرساء نظام جديد يسعى عبر المؤسسات والقوانين إلى وقف الحروب بعيدا عن أوهام التنوير أو الرقي الإنساني، لكن الحروب لم تتوقف وسفك الدماء استمر الخبر الأول في نشرات الأخبار حتى الآن.
يقول ألبرت إنشتاين: كلما اتسعت دائرة الضوء اتسع محيطها من الظلام. هذه حقيقة فيزيائية قد تنسحب على الحياة عموما بما فيها دائرة الضوء تلك التي سماها مؤرخو الفكر «التنوير». وظل السؤال حول حاجة الإنسان إلى العنف لتحقيق مصالحه يلاحق الفلسفة والعقل الإنساني الذي راود فكرة الموت كسؤال وجودي، وفكرة أن ترصد الأمم معظم دخلها الوطني لإدارة الموت بشكل جماعي. في حوار بين كاتب رواية زوربا اليوناني، نيكوس كازانتزاكيس، وشخصيته الأثيرة زوربا يترنح هذا السؤال بقوة:
زوربا: لماذا يموت صغار السن؟ لماذا يموت أي إنسان؟
باسيل: لا أعرف.
زوربا: وما جدوى كتبك اللعينة إذا كانت لا تستطيع الإجابة عن هذا؟
باسيل: إنها تخبرني عن كرب الرجال الذين لا يستطيعون الإجابة عن أسئلة من هذا القبيل.
زوربا: وأنا أبصق على هذا الكرب!

كرب زوربا الوجودي حيال فكرة الموت نفسه، ما بالك حين يكون هذا الكرب الموت قتلا، أو قتلا جماعيا وإبادة. إنه الكرب الذي يعترينا ونحن نرى الجثث تتكدس محروقة على شاشاتنا الأنيقة، ونحن نرى الصواريخ والقذائف تحط فوق البيوت ومواكب الزفاف، ونحن نرى تلك النشوة الغامرة التي تجتاح القتلة وهم ينشرون صور السيلفي بخلفية من الرؤوس المقطوعة. يبدو أن لا مبرر لكل ذلك حين يحكم العقل أو حين يتحدث العقلانيون بروية، لكن العالم لم ولن يسير بهذه الطريقة الانتشائية، لأن ما يصنع التاريخ حشد من القوى اللاواعية ومن العواطف الجياشة والغرائز التي تجعل من الحروب ملاحم بطولة، وتنصب للقتلة تماثيل في الميادين العامة «في هذه الفترة بالذات تسقط في أميركا وأوروبا تماثيل خالدة لأبطال قوميين بدأ يدرك الناس أنهم مجرد عنصريين أو قتلة انتصروا لعرق أو مذهب أو أيديولوجيا، وتحطيم هذه التماثيل تقوده لحظة عاطفية جياشة أثارها مقتل أميركي من أصول أفريقية وسجلتها كاميرا متلصصة. هل يبدو تجريد الفعل الإنساني من المعقولية مفزعا؟ أم أن لهذه القوى المحركة هامشا من الجمال تكابد به هذا الكرب الإنساني العاجز عن الإجابة عن سؤال زوربا.

في كتاب أرسان العقل، ترجمة نجيب الحصادي، يقول المؤلف، يوسن س. نوفسكي: «لا حاجة لأن ينزعج المرء أكثر مما يجب من حدود العقل والمعقولية.... ذلك لأننا نحن الكائنات البشرية نعيش أصلا وراء العقل. العالم الذي يقطنه البشر ليس عالم العقل، والمنطق، والرياضيات، والعلم البارد قاسي القلب. أذهاننا لا تعيش في عالم الأحجار، وصور الحياة المؤسَّسة على الكربون، والجزيئات التي تمتثل لقوانين الفيزياء المعتادة، بل لدينا مشاعر وعواطف لا يمليها العقل والمنطق».

ينطلق المؤلف إلى هذا التوصيف المربك من خلال رصده لمسيرة العلم كنشاط لا يمكن إلا أن يرتبط بالعقل المعبر عنه حسيا بالدماغ البشري، ويكتشف أن للعقل حدودا حتى في مجال العلم المعتمد على النظريات المتسقة والبراهين الدامغة، ويضرب أمثلة ذكية تفند هذا التبجح للعقل الذي يمكنه أن يعمل لكن ضمن حدود، بل يعتبر ما بعد هذه الحدود هي الشرط الإنساني الأهم لفكرة التقدم والجدال والتغيير والتنوع: «ويمكن إلى حدّ ما تفسير السبب الذي يجعل الكائنات البشرية تجد كل هذا العنت في الانسجام مع بعضها البعض بحقيقة أن لدينا جميعا رغابا وقيما تتجاوز العقل والمنطق الموضوعي. لو كنا جميعا نتصرف منطقيا بشكل صارم مثل حاسوب، أو مثل شخصية سبوك في فيلم رحلة إلى النجوم (Star Trek) لاتفقنا ولما تجادلنا إطلاقا. وهذا التنوع في الإرادة يجعل الحياة مثيرة. التنافر بين مختلف رغاب البشر يضفي حياة على علاقتنا بالآخرين، ويمنحنا شعورا بأن كل شخص آخر مجنون ولاعقلاني. وبطبيعة الحال، تنتاب الآخرين مشاعر مماثلة إزاءنا. لدينا جميعا رغاب لا معقولة وإرادات تحكمنا تختلف عن إرادات الآخرين».

يبدو من خلال هذه المصادرة المربكة أن الحديث الذي يدلي به المسؤولون عن مصير الكوكب، من ساسة ورجال مال وزعماء منظمات إنسانية حالمة، بشأن تحكيم العقل والمنطق، لا معنى له، أو بالأحرى لا فعل له فيما يحدث. وربما هذا ما جعل بعض مؤرخي تاريخ منظمة الأمم المتحدة في فض النزاعات يفسرون مماطلتها أو تأجيلها التدخل بكون ثمة شحنة أو طاقة في هذه الصراعات يجب أن تصل مداها وتخفت كي يكون التدخل والحل ممكنا، وهذا نجح في كثير من الحالات.

«قراراتنا لا تتخذ تأسيسا على المنطق والعقل» كما يقول نوفسكي، بل تعول على الإستاطيقا والخبرة العملية والميول الأخلاقية والعواطف والأحداس والمشاعر، وبهذا المعنى كل منا يتجاوز أصلا عقال العقل.

ربما من هذا المنطلق كتبتُ، أكثر من مرة، عن عدم قدرتنا حتى الآن على إيقاف الحروب، أو حتى الحلم بانتهائها، لأنها خاضعة لهذا المركب المعقد من النفس البشرية المفضي إلى ما يسميه نوفسكي «الإرادة والرغبة»، وأكثر ما يمكن أن تقوم به المشاعر أو الإستاطيقا كميل جمالي أن تهذب هذه الحروب وتقلص من آلامها، ومحاولة تفريغ طاقاتها الجامحة بأقل أضرار تطال من لا علاقة لهم بها، وهذا الفيض الإنساني تحركه إرادة ورغبة تواجه إرادة ورغبة من يعيثون في الكون خرابا، وهي مواجهة صامتة وعادة ما تكون بعيدة عن الأضواء، فكل قوى ما وراء العقل التي تثير الفزع في النفس البشرية الحالمة والواثقة من حكمة هذا المخلوق في النهاية، هي نفسها القوى التي تقف خلف كثير من الجمال الذي به نتنفس كي نقاوم ونستأنف الحياة: «لا العقل ولا المنطق يخبرنا بما نريد أو بما يجب أن يكون، فهذا شأن الإرادة والرغبة. وفي غياب الحب والرغبة والموسيقى والفن لا معنى للعالم. والحياة الواقعية ليست مهمة إلا حين تشمل الأخلاق والقيم والجمال. الإرادة والرغبة أساسيان، في حين أن العقل أداة لهما. العقل أداة قوية، لكنها تظل محدودة!».