Atwasat

اللوحات الفنية القاتلة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 22 يونيو 2020, 01:19 مساء
محمد عقيلة العمامي

انتبهت حكومة إنجلترا إلى أن دار "دى لارو" ليست مجرد مطبعة للمفكرات المكتبية المتميزة فقط، خصوصا من بعد أن تعاقدت معها بعد موافقة البرلمان على طباعة طوابع البريد لأول مرة في العالم يوم 6/ 5/ 1840. قبل ذلك لم يكن بالعالم أية طوابع بريدية.

ثم ذاعت إمكانيات ومهارات هذه الدار، واستمرت في تصميم طوابع بريطانيا البريدية وطبعها لأكثر من ثلاثين عاما متتالية، فتوالت على "توماس دى لارو" العقود والطلبيات من العالم كله.

غير أن النقلة الكبيرة كانت بعد أن اتجهت بريطانيا إلى العملة الورقية لتحل محل العملة الذهبية، فالنقود في الماضي كانت قيمتها فيها، فمثلا كانت الليرة العثمانية المجيديه، متداولة في معظم الولايات العثمانية، ولعلنا في ليبيا نتذكر إلى عهد قريب كيف كانت المسبوكات الذهبية من عقود تزينها العملة العثمانية المجيدية المسكوكة بالذهب، بل ولماذا نعود إلى حقبة العثمانيين، ففي عهد القذافي سكت جنيهات ذهبية مُهرت بنقش صورة معمر القذافي، وبيعت بالفعل في المصارف وكان الجنيه الإنجليزي الذهبي، يساوي قيمه الذهب المسكوك منه، أما الروبل الهندي فكان من الفضة؛ جميع هذه النقود كانت عبارة عن معادن ثمينة مسكوكة، تحمل قيمة في ذاتها. وبمقدار ما عند الدولة من ذهب تُصك النقود، وحينما ينفد هذا الذهب لا تستطيع الدولة أن تطبع أية نقود! .

”نظام الذهب” كان معمولا به في الماضي، لكن انتهى العمل به حالياً! ومكان الذهب ابتكرت العملة الورقية "Fiat Currency" فهي لا تحمل قيمة في داخلها بل في ثقة الناس في الحصول على أشياء مقابل هذه العملات. وهكذا تحولت أكثر من 97% من العملات الصعبة إلى أرقام في حواسيب في العالم الافتراضي، النقود، إذن، أصبحت ورقية.

تفنن رجال دار "دي لارو" في تصميم أوراق البنكنوت بصور فنية غاية في الدقة والروعة، وبابتكار كل ما يقف في طريق المزورين، فأصبح الوحيد الذي قهر المزورين!

سمع الناس في العالم كله بأوراق البنكنوت التي أمسكت بها مالطا، وادعت أنها مزورة، فيما تؤكد جهة قانونية قائمة في الشرق الليبي أنها ليست مزورة وأنه متعاقد على طبعها رسميا بعيدا عن دار "دي لارو".

الرصاص الذي لعلع مؤخرا في شوارع بيروت، والطائرات المحملة بالمرتزقة والمفخخات، والسلاح، التي تنطلق من دولة تدعى أنها مسلمة لتقتل شبابا مسلما، هي من أجل تلك اللوحات الفنية البديعة، التي ينفذها فنانون مهرة، هادئون، طيبون يتركون مقاعدهم، بين الحين والآخر ويتجهون نحو النافذة المطلة على الحديقة ويشعلون غليونهم ويتأملون الطبيعة بخضرتها وأزهارها وطيورها زاهية الألوان، وهي تغرد ولكنهم لا يسمعونها بسبب هذا الزجاج الذي لا يخترقه الرصاص، فالمبني محصن بدرجة تصل تحصين مبنى لأية أبحاث ذرية أو صناعية. إنه مبنى مطابع (توماس دي لاور) للأوراق النقدية، الذي يقع في ضواحي مدينة (ليدز) بشمال إنجلترا.

مطابع (دي لاور) تصمم، وتطبع معظم عملات العالم، وهي توظف فنانين، مهرة، ومؤهلين فكل دولة تريد أن تضع نقوشها، وذوقها، ورسوماتها لعملتها؛ فمثلا سويسرا تريد ورقا متينا، برسوم عصرية، وكمبوديا تريدها مزدانة بفتيات راقصات، وإيران بنقشات سجاجيدها العجمية، ومعظم دول أمريكا اللاتينية تريدها قريبة من رسومات الولايات المتحدة، أما العالم العربي، فلا يغيب رؤساؤه، طالما هم على قيد الحياة، والجيدون منهم يبقون قليلا على استحياء، وإن كانوا يتركون مساحة، ولو بسيطة، لأبطالهم. وإن تطورت دول عربية وأصبحت تتجه نحو آثارها وإنجازاتها العملاقة.

ويحرص الرسامون على تنفيذ وحفر ما يصعب تزويره، ناهيك عن استخدام أحبار يصعب تقليدها، والتأكيد على العلامة المائية، أما الأوراق فهي في الغالب تصنع من مخلفات أنواع من أقمشة بالية.

وتستمر الحروب بين مهارات فناني (دى لاور) والمزيفين، من العالم كله، فقليلة هي النقود التي تطبع بعيدا عن مطابع (دي لاور)، التي استهلت نشاط طباعة النقد منذ سنة 1901 عندما طبعت نقد دولة تايلاند. والصراع بين مزيفي النقد وبين هذه المؤسسة، لم يتوقف، ولعل أشهره هو إغراق ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، بأوراق عملة الجنيه الإسترليني فئة الخمسة جنيهات، التي لم تجد بريطانيا من حل لها سوى إعادة تصميم وطبع هذه الفئة.

ومازال الصراع مستمرا، ومازالت الحاويات المدرعة تخرج بين حين وآخر من ذلك الحصن "دى لاور" العملاق، وكأنه مقر إنتاج الأسلحة الفتاكة، من دون حراسة ظاهرة، ولكنها بالتأكيد محروسة برا وبحرا وجوا حتى تصل بنوك العالم لتشتعل الحروب في كل مكان بسببها!

وما يدور في ليبيا الحبيبة، من اقتتال، وتعذيب شباب الوطن الواحد لأهلهم، وحروب إعلامية، ودولة امتهنت سرقة الأطفال والبشر من الدول المجاورة والدفع بها إلى أتون حرب، وجاءت بأساطيلها وطيارتها إلاّ بسبب هذه اللوحات الفنية التي طبعت في مطابع "دى لاور". المؤسف أن أصحاب هذه اللوحات الحقيقيين، خدعهم أبناؤهم "الحذاق" وسرقوها منهم، وتركوا أمهاتهم وأراملهم، وعجائزهم يستجدون الفتات والقشور! فابك يا وطني الحبيب.