Atwasat

عين الرقيب: بين القداسة والإدانة

جازية شعيتير الأحد 21 يونيو 2020, 12:01 مساء
جازية شعيتير

 

لعين الرقيب مفاهيم دينية، خاصة في الديانات السماوية، وهي مفاهيم ذات قداسة عقائدية، لارتباطها بالذات الإلهية؛ فالله هو الرقيب العليم، وبعض من الملائكة مكلفون بالرقابة وكتابة تقارير فورية مستمرة لأفعال الإنسان الخيرة منها والشريرة. واستناداً لبعض الاجتهادات التفسيرية، يضطلع بعض المؤمنين برقابة المجتمع؛ تمهيداً لتأدية دورهم في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر!

اخلاقياً تشيد المنظومة القيمية في كثير من المجتمعات بالضمير الإنساني، فهو "عين رقيب" داخلية حاضرة متى غابت الرقابة الخارجية.

اجتماعياً تصنف عين الرقيب جندرياً؛ فإذا كانت ذكورية، ستحيل لمنظومة السلطة الأبوية، بمفاهيمها المتعلقة؛ بالولاية، والغيرة، والحمية، والسيطرة. أما إذا كانت أنثوية، فسترتبط بالأمومة، مما يصرفها لمفاهيم؛ العناية، واللطف، والحماية. وهي مفاهيم مقدسة في كثير من المجتمعات. عرض الكاتب أحمد مراد، هذه المفاهيم بأسلوب فني لطيف في فيلمه المميز "الأصليين" عام 2017.

في الشارع، تتجاوز "عين الرقيب" مأمور الضبط القضائي المسؤول عن ضبط الحركة المروية؛ حيث تتسع عين الرقيب لتضحى عيون الناس في مركباتها الآلية وخلف واجهات محلاتها. بعضها يترصد وقوعك في مشكلة ليساعدك في حلها، وبعضها يترصدك ليوقعك في مشكلة. اشتكى الفنان محمد منير هذه العيون في أغنية جميلة من كلمات سيد حجاب، سنة 2012؛ حيث ضاق ذرعاً من تقييدها لحريته:

" ... وراء البيبان عيون... كل الميدان عيون... للعربيات عيون... للفاترينات عيون... نروح فين يا حبيبتي من زحمة العيون؟" وقد حمى القانون الجنائي الوطني هذه العيون بأن جرم كثيرا من الأفعال المباحة، إذا تمت بدون احترامها، بأن وصفها بالفاضحة لأنها تخدش حياء تلك العيون؛ ومثلها: السلوك الحميم بين الزوجين.

في وجود الدولة المدنية وفي ظل منظومتها المؤسساتية تجد عين الرقيب طريقها للتبجيل الرسمي؛

فالسلطة القضائية تمارس الرقابة على الأشخاص العادية، والاعتبارية: العامة منها، والخاصة، لتضمن تطبيقها الصحيح للقانون في تصرفاتها وقراراتها. كما تُعمل المحكمة العليا عينها الرقيبة على المحاكم الأدنى منها لضمان توافق أحكامها مع صحيح القانون؛ بينما تذهب المحاكم أو الدوائر الدستورية مدى أبعد؛ فهي عين على القانون نفسه تترقب مخالفته للدستور.

وفي المؤسسات العامة والخاصة تتحول "عين الرقيب" إلى مفهوم إداري قيم، وتصبح من متطلبات الحوكمة الرشيدة؛ فنجاح المؤسسة مرتهن بحسن المتابعة والمراقبة الداخلية، ناهيك عن الرقابة المؤسسية الخارجية، إلا أن عين الرقيب تؤرق أهل الإبداع مخافة مقصه أحياناً ومقصلته أحيانا أخرى وبالتالي هي غير محمودة في المؤسسات الفنية والعلمية .

وبالحديث عن مؤسسات الدولة السيادية، وأمنها الداخلي والخارجي تذكر أجهزة المخابرات فهي إحدى وسائل الرقابة السيادية. وتصنف نوعياً إلى مخابرات عسكرية، ومدنية. كما تتنوع من حيث النطاق الرقابي إلى خارجية وداخلية. وتتعدد مسمياتها ويختلف مدى صلاحيتها من دولة إلى أخرى.

عين الرقيب ضد الأعداء محمودة رسمياً ومجتمعياً؛ فلولاها ما أمكن اختراق العدو، أو معرفة كيف يجهز، وكيف يفكر، وما التبجيل الذي لاقه "رأفت الهجان" في ضمير المشاهد العربي إلا دليل على ذلك.

عين الرقيب مذمومة حد التخوين عند المتضرر منها، فالقوانين الجنائية الوطنية زاخرة بجرائم تصل عقوبتها الإعدام عن كثير من صور الأفعال الرقابية بل وعن الشروع فيها أو مجرد الاتفاق عليها متى كانت الدولة هي محل الرقابة بأماكنها وأشخاصها وأسرارها الأمنية والعسكرية.

تكمن الخطورة في الرقابة البوليسية، في أنها تعري المواطن أمامها، وقد قال أحد وزراء الداخلية المصرية سابقا: نحن نراقب كل شيء... وعندما نفرز نهتم بالسلوكات الماسة بأمن الدولة فقط، أما السلوك المخالف للآداب العامة نحتفظ به لحين حاجة ليستخدم ورقة ضغط نضمن من خلالها ولاء المواطن. ولعل الذاكرة العربية تستحضر من العهد القريب تلك الشخصية المصرية التي اشتهرت بصفة "عين رقيب" والتي ما فتئت تهدد على الهواء مباشرة، تلميحا وتصريحا، بما شاهدته ووثقته عينها الرقيبة في "سيديهات".ولعل مسلسل "الزيني بركات" انتاج اتحاد الاذاعة والتليفزيون المصري في سنة 1995 عن رواية الكاتب جمال الغيطاني، يعد أحد أهم المسلسلات التاريخية الراصدة لعيون البصاصين في زمن المماليك، وأهمية هذا العمل الفني تكمن في تشريحه لعملية ترشيح البصاص ثم تحوله من شخص زين إلى شخص لا يؤمن بأي قيمة زينة.

إذا كان الفرد هو محل الرقابة فيجب أن تكون العين الرقيبة قضائية احتراما لحق السر "الحق في الخصوصية" وهو ما يحتاجه الإنسان المتمدن من ستر، وعدم اطلاع الغير على وعاء خصوصيته: الجسد، والمسكن، والرسائل البريدية، والرسائل الالكترونية، والمحادثات الهاتفية. ليكون مستقلا به. وهو حق دستوري صريح نص عليه الإعلان الدستوري المؤقت 2011 في المادة 12 (لحياة المُواطنين الخاصة حُرمة يحميها القانون ، ولا يجوز للدولة التجسس عليها إلا بإذن قضائي وفقاً لأحكام القانون.) كما قضت المادة 13 منه بأن (للمُراسلات والمُحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال حُرمتها وسريتهـا، وهما مكفـولتان، ولا تجـوز مُصـادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمرٍ قضـائي، ولمدة مُحددة، ووفقاً لأحكام القانون.)

هذه النصوص الدستورية وضعت لحماية المواطن في مواجهة سلطات الدولة التنفيذية من التصرفات والقرارات المخالفة، بل وتحميه في مواجهة السلطة التشريعية من سن قوانين تخالف ذلك. ولعل من أهم الجزاءات الجنائية المترتبة على الإخلال به: هو بطلان دليل الإدانة المتحصل عليه من خلال رقابة غير قانونية، وبطلان أي إجراءات تترتب عليه. وهو ما يعبر عنه بقاعدة "ما بنى على باطل فهو باطل".ِ

ولكن هل هذه النصوص الدستورية كفيلة بحماية المواطن من الغير؟ بمعنى هل تلزم هذه النصوص السلطة التشريعية بسن نصوص حمائية تكفل له الحماية من الآخرين؟ النصوص العقابية ليست كافية، كما أنها نصوص قديمة؛ لا تواكب التطور الإجرامي المواكب للتطور التكنولوجي.

شاشة الرصد التي تنبأ بها جورج أورويل في "1984" قد أصبحت واقعاً ملموساً نحملها معنا طول الوقت وفي كل مكان، ونحن نخبرها بمحض أرادتنا بالكثير؛ فقد صنعت الرأسمالية في زمن الحداثة نظاما خطيراً للمراقبة سواء غير مباشرة من خلال أساليب التسويق عبر النت، الذي أتاح فرصة كبرى لمعرفة الكثير عن رواد السوق السيبراني .أما المراقبة المباشرة المتمثلة في رصد حياة الأفراد عن طريق كاميرات المراقبة، أو استخدام كاميرات الهواتف الذكية، أو كاميرات أجهزة الكمبيوتر واللاب توب والتابلت لمراقبة الأشخاص؛ حيث أضحى العمل الرقابي متاحاً للجميع فالكل يراقب الكل؛ فأعمال الدولة السيادية، من تشريعات وقرارات، تصور وتسرب، قبل أن تدقق لغوياً، وقبل أن ترقم إشارياً. كما أمسى مصطلح الهاكر دارجاً على لسان كل مشتركي "الفيس بوك" وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يعد بالإمكان الحديث عن إيميل مصان، أو ماسنجر محمي.

في الشارع السيبراني قررت العيون أن تتسور الحيطان وتتلصص على الغرف الخاصة، ولو من باب التسلية، بدون رقيب أو حسيب!! فالكل قد صار مساهما في لعبة بغيضة: إما مراقِب ترصد عينه الآخر. أو مراقَب يتحصن من عين الآخر!! الجميع يحاول أن يواري سوأته ويخصف عليه من وسائل التستر الواهية، بينما يسعى البعض حثيثا لإسقاط ورق التوت عن سوءات الآخرين .

غير أننا في خضم ممارستنا للعبة "الرقابة السيبرانية" لا ننتبه إلى أن "الأخ الأزرق" يراقبنا جميعاً، وبدون حاجة للهاكرز؛ خلجاتنا، وتطلعاتنا، وآراؤنا، وميولنا، وهواجسنا، وأمراضنا، نعبر عنها بضغطة زر، لتسجيل إعجاب بشيء ما، وهذا كافٍ جداً لتعريتنا؛ أمام أعين الرأسمالية الجشعة، من خلال التسويق السيبراني. وأمام أعين الدكتاتورية الغاشمة، من خلال الأمن السيبراني .

وفي النهاية مآل عين الرقيب؛ أن تنشر الخوف وتشيع الحذر، وبالتالي يغيب الإنتاج، ويختفي الإبداع، وتفقد الثقة في الآخر؛ فتسود ثقافة التخوين، وتتفشى الكراهية، ويتحول الإنسان تدريجياً إلى كائن غير اجتماعي: صامت، وخائف، ووحيد ...