Atwasat

شعرية الحياة (في رثاء عبد السلام شهاب)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 14 يونيو 2020, 08:00 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

يبتلع أصدقاءَ العمر، واحدا فواحدا، غيابٌ لا عودة منه. كأنهم يقفون في صف بانتظار دورهم ليدخلوا مكانا يغيبون فيه إلى الأبد. وأنا أراقب هذا وأرثيهم، حتى صرت أخشى أحيانا أن يتأخر دوري، وعندما يحين، لا أجد من يرثيني! لأن حالي سيكون ما عبر عنه عمرو بن معديكرب:

ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا
وإذا كان مالك بن الريب قد تمكن من رثاء نفسه، في آخر لحظات انحداره إلى الغياب، بقوله:
تذكرت من يبكي عليَّ فلم أجد... غير السيف والرمح الرديني باكيا
فلا أعتقد أنه ستتاح لي هذه الإمكانية، ولن تكون هذه حالي.

في رواية لكاتب أمريكي، تقول إحدى الشخصيات ما معناه: من جمال الموت أنه لا يأتي إلا في آخر الحياة!

فالموت ينتظرنا في نهاية الحياة، نهاية الطريق. قد يباغتنا في سهو منا من خلال سيارة عابرة سائقها ساه هو الآخر، أو حادثة فجائية ما، أو سكتة قلبية أو دماغية خاطفة. وقد يظل يرقبنا، متمهلا متشفيا، ونحن نعاني مرضا مميتا، أو ونحن نشيخ ونهرم وأجسادنا تجف وتذوي، كنبتة انقطع عنها الزاد، وحواسنا تتراخى حتى تعجز عن أداء وظائفها، كي يجهز علينا، في النهاية، بلمسة اصبع خفيفة.

آخر الغائبين من الذين أحبهم: عبد السلام شهاب.

لا أذكر أول مرة التقينا فيها. لكنها كانت في بنغازي سنة 1975. وقد عرف بيننا أحمد الفيتوري.

تعارفنا بسهولة وتآلفنا بسلاسة، وانعقد بيننا ود عميق وتقدير راسخ، استدام في ظروف السجن الصعبة. كان كلانا يكتب القصة ولنا تجربة في النشر منذ بداية السبعينيات، وتوقفنا قليلا، لنعود مع ظهور صفحة "آفاق ثقافية – كتابات شابة" سنة 76 التي كان يشرف عليها أحمد الفيتوري، بصحيفة "الفجر الجديد".

كان كريما بشكل محرج ومضيافا، رغم محدودية موارده، بحيث ينطبق عليه المثل الذي كانت أمي تردده: "الَّي ما يهون عليه من الشوية، ما يهون عليه من الياسر".

كان طفلا كبيرا، يغيم ويضطرب مزاجه أحيانا، إلا أنه سرعان ما يعود إلى بسط المودة بكلمة ترضية أو ابتسامة ود. غادر المدرسة، مضطرا، من فترة مبكرة جدا من التعليم الأساسي. لكن تكون لديه، بطريقة ما، قد يجهلها هو نفسه، طموح إلى الثقافة والكتابة. فثقف نفسه بنفسه، رغم الظروف المعاكسة، وانجذب إلى كتابة القصة. كانت كتابته القصصية متميزة وباهرة، تتفجر حياة وتشع ألقا إنسانيا. تضج بشعرية الحياة. إلا أنه بعد الخروج من السجن توقف عن الكتابة.
*
أبديت أمامه، ذات مرة، رغبتي في أن أذوق طبيخة "القعمول" التي كثيرا ما سمعتها تُمدح. ذات يوم أخبرني أن العشاء سيكون في بيته وأن أمه ستعد طبيخة "قعمول". لكن هذه الطبيخة ظلت في انتظارنا إلى ساعة متأخرة من الليل، والغالب أنها أريقت. لأننا اعتقلنا ذلك المساء، لنخرج من السجن بعد أكثر من تسع سنوات.

وإلى الآن لم تزايلني رغبة تذوق طبيخة "القعمول".