Atwasat

«القسورة» بين «الأخونة» و«الجهونة»

بشير زعبية الأربعاء 13 أغسطس 2014, 08:10 مساء
بشير زعبية

عمود الدخان الكثيف الذي لا زال حتى الساعة ينبعث من خزانات نفط طريق المطار صانعًا غيمة عملاقة في سماء العاصمة طرابلس هو الشاهد الذي يذكّر أهالي المدينة بأن ثمة اقتتالاً في محيطها دخل اليوم شهره الثاني، دون معطيات مقنعة تدلل على أن أحدًا من الطرفين قد حقق ما يمكن أن نسميه مكسبًا على الأرض، وحده الدمار يتجلى دليلاً ماديًا على ضراوة الاقتتال، ووحدها النعوش العائدة إلى مدنها تكشف مدى دمويته.

بعد شهر من حرب الشقيق على الشقيق وتقاتل رفاق جبهة الأمس لم يجرؤ، أو لم يشأ (سيان) أحدٌ الإعلان عن العنوان الحقيقي لهذه الحرب بغير شعاراتٍ نجحت إلى حد كبير في جر بسطاء الناس من ذوي النوايا الطيبة إلى تأييدها ودفع الدم من أجلها. لا أحد من اللاعبين الحقيقيين الذين أطلقوا الرصاصة الأولى أو القذيفة أو الفكرة الأولى في هذه الحرب كشف عن نفسه، وكشف عن أجندته التي احتوت قرار الحرب وعن تفاصيلها حيث يطل شيطان السياسة المتحفز.

بدأت الحرب تحت شعار «القسورة» بما يحمله من بعد ديني مستهدفة في البداية مطار طرابلس كخطوة أولى نحو «تحرير» طرابلس كما أعلن مطلقوها

بدأت الحرب تحت شعار «القسورة» بما يحمله من بعد ديني مستهدفة في البداية مطار طرابلس كخطوة أولى نحو «تحرير» طرابلس كما أعلن مطلقوها، ليعطوها فيما بعد مسمى «فجر ليبيا»، لكن توقيت القذيفة الأولى فتح الباب للتأويل السياسي، ولأن الصدفة لا تكون صدفة في السياق السياسي، فإن ظهور «القسورة» مع ظهور نتائج مسار الاقتراع في انتخابات مجلس النواب، فرض أولى تفسيرات الحملة، حين تبين أن القوى السياسية المؤيدة بقوة للحملة لم تكسب رهان الاقتراع؛ مما يعني ضآلة تمثيل متوقعة في تشكيلة حكومة البرلمان المرتقبة، وبالتالي وجد هذا الوضع من يفسره بأنه محاولة فرض واقع بالقوة على الأرض يحقق ما تراه هذه القوى «التوازن» المفقود في مجلس النواب المنتخب، بمعنى ضمان اقتسام السلطة، ولأن العاصمة طرابلس في المنظور السياسي التقليدي هي مركز السلطة، فإن التفسير ذهب أيضًا إلى حد الخشية من أن يتحول «اقتسام» السلطة إلى «استيلاء» على السلطة إذا نجحت قوى «القسورة» في تحقيق انتصار كاسح على خصومها.

إلى ذلك طُرح السؤال: لماذا قرار الحرب لإخلاء مطار طرابلس من التشكيل المسلح الذي يسيطر عليه ولدينا قراران من المؤتمر الوطني مدعومان شعبيًا بإخلاء العاصمة كلها من التشكيلات المسلحة الخارجة عن الشرعية؟ لِمَ لَمْ يتم انتظار أن تتشكل الحكومة المنبثقة وتعمل على تنفيذ القرارين تحت شرعيتها؟ ولماذا الاستعجال في بدء إطلاق النار قبل أيام من إعلان النتائج النهائية لانتخابات مجلس النواب؟!
أسئلة التوقيت أيضًا تربط بين ما يجري في بنغازي تحت عنوان «عملية الكرامة» التي أطلقها اللواء المتقاعد خليفة حفتر لـ«تحرير» بنغازي، وإطلاق عملية «القسورة» لـ«تحرير» طرابلس؛ مما أعطى المشهدَ عنوانَه الذي لم يعلن: (القسورة في مواجهة الكرامة).

ولعل هذا الربط ظهر بشكل واضح في تقرير نشرته دورية (مغرب - كونفيدنشال) حول لقاء جرى في طرابلس يوليو الماضي جمع مسؤولة الشؤون السياسية في بعثة الاتحاد الأوروبي آنا كوهيلو بوفد يمثل الإخوان المسلمين في طرابلس أكد فيه الوفد «أنه ليس في نيتهم تخفيض التوتر سوى بعد تحييد الجنرال خليفة حفتر والقضاء عليه»، ولم يتم نفي التقرير، ثم في تصريح رئيس حزب العدالة والبناء محمد صوان لوكالة أسوشيتدبرس الذي نقلت عنه الوكالة تأييده للعملية العسكرية في طرابلس، وظهر التوجه نفسه أيضًا في كتابات لأسماء معروفة تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بدت وكأنها تتبنى بل وتتباهى بالعملية وتلوح بها في وجه الخصوم. إذن كان من الطبيعي أن يشير خصوم الجماعة إلى دور إخواني وراء حملة «القسورة»، وربما تعمد الإخوان الإيحاء بطريقة ما إلى هذا الدور المباشر.

في سياق موازٍ لـ«أخونة» القسورة، ثمة من تعمد «جهونتها» وإن قيل غير ذلك، إن استبدل بعضهم أيضًا القسورة بـ«فجر ليبيا»، وظهر ذلك مع إظهار شخصية معروفة مثيرة للجدل وتنتمي إلى مدينة بعينها لنفسه قرب مطار طرابلس في الهجوم الأول على مطار طرابلس وهو يكبر ويشير إلى سياج المطار، وكأنه يوجه رسالة واضحة بأن القوة المحسوبة على مدينته هي التي تقود العملية وإن اتخذت اسما آخرًا كدرع الوسطى على سبيل المثال، وقد انتشر هذا المشهد سريعًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتبدأ الحملة على هذه المدينة وتلبسها «القسورة».

إذن تمت جهونة «القسورة» وإن استعارت «فجر ليبيا» اسمًا آخرًا. وأصبحنا أمام مواجهة بين قوتين تمثلان جهتين محددتين وإن حاول أيٌ من الطرفين رفض هذا التوصيف معللاً ذلك بمشاركة قوات أخرى إلى جانبه تمثل مدنًا أخرى.

وتورط الطرفان في اقتتال يقفل الشهر الآن حاصدًا الأرواح مدمرًا المرافق مهجرًا آلاف الليبيين، وشلت تداعياتُه العاصمة طرابلس وأدخلها حالة من البؤس تعطلت فيها الخدمات، وحول حياة سكانها إلى نوع من العذاب اليومي، دون أن يحقق أيٌ من الطرفين إنجازًا يبرر كل هذا القتل والدمار، وهو سؤال يخشى كل طرف من أن تفجره في وجهه عائلات القتلى وهم يحصون نعوش أبنائهم العائدة من مناطق القصف.

ومهما كانت مبررات هذه الحرب المعلنة منها وغير المعلنة، ومهما كان توصيفها السياسي أو الجهوي، ومهما كانت الشعارات التي خيضت تحتها، وحين تسكت المدافع وتعود الراجمات إلى مخابئها، عندها لا بدّ من تشكيل لجنة تحقيق محايدة لتوصيف ما حدث، وتحديد المسؤولية، فلا ينبغي أن تمر هذه الواقعة الكارثة هكذا، وإن سكت السلاح وتصالحت الأطراف، وعاد كل إلى دياره!.