Atwasat

صُمٌّ بُكمُّ.. ويعقلون

جمعة بوكليب الخميس 11 يونيو 2020, 10:46 صباحا
جمعة بوكليب

لاتخطئهم عينٌ، وليس بمستطاع أذنٍ تجاهلُ أصواتِ جلبتهم، وإن استغلق فهمها. مكانهم معروف في تلك البقعة من مقهى الخضراء، بحديقة الغزالة. وضحكاتهم الرائقة العالية تضفي على المكان رونقاً استثنائياً. كلهم شباب في عمر الزهور، ينتمون إلى مختلف مناطق طرابلس، يصل عددهم إلى عشرة تقريباً. كل مساء وحتى ساعة متأخرة من الليل يتحلقون حول منضدة، يلعبون الدومينو بحماس، أو يتناقشون فيما بينهم، ويضحكون لما يلقيه بعضهم من نكات وطرائف أو ما يحدثونه من مقالب. والمناضد من حولهم عامرة برواد انشغلوا عنهم بلعب الورق أو الدومينو، و التدخين والدردشة. كانت تلك المجموعة من الشباب متميزة بكونهم جميعا يتشاركون في عبء إعاقة تحول بينهم وبين النطق والسمع، لكنها لم تقف حاجزاً بينهم وبين التواصل الانساني الحميم، والرفقة الطيبة. تعطلت ألسنتهم، فتكلمت أرواحهم من خلال أصابع أياديهم وملامح وجوههم بلغة الإشارة، التي كانوا قد تعلموها في معهد الصُمّ والبُكم صغاراً. كانوا صُماً بُكماً، ويعقلون جداً.

أعرف المصير الذي آل إليه مقهي عروس البحر، بتحوله إلى جزء معبد مسطح من طريق عام بعد قرار نظام القذافي، في آواخر السبعينيات، حل مشكلة الازدحام المروري بالغاء الكورنيش، وردم البحر. لكني لا أعرف ما الذي حلَّ بمقهى الخضراء، بعد أن فقد تالقه وحضوره، وصار مجرد مقهى كئيب، آخر، يضاف إلى مئات المقاهي الأخرى التي تضيق بها العاصمة الليبية طرابلس حالياً.

الاثنان، الخضراء والعروس، كانا في آواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي متنفساً لشباب طرابلس في ليال فصول الصيف، لقربهما من البحر، ومن وسط المدينة، ولما يقدمانه من خدمات لزبائن شباب ضاقت بحيويتهم وبفتوتهم شوارع وأحياء مدينة صغيرة، ذاقت نغنغة نعمة النفط بعد جوع، وبدأت ترفع رأسها متطلعة لما وراء الأفق.

الصيف وطرابلس صديقان قديمان. الصيف قد يكون ضيفاً على مدن أخرى، لكنه في طرابلس ليس ضيفا غريباً، ولا ثقيلاً. المدينة التي أطلق عليها الرحالة والجغرافيون وصف المدينة البيضاء، ولقبت بعروس البحر المتوسط، تنتعش لدى حلول فصل الصيف، وتفتح أبوابها وشبابيكها على زرقة البحر ونسائمه. وكان شبابها يجمعهم المرح واللهو على شواطيء البحر في المصيف البلدي، والليدو، وغيرهما نهاراً، وفي الليل يلتقون جماعات جماعات، في مقهى الخضراء أو مقهى عروس البحر، حتى ينتصف الليل. وكان الليل برائحة وطعم ومذاق مختلف في تلك الأعوام البعيدة: ناعماً رطباً، أليفاً وحانياً، وصديقا ودوداً، ولا مكان به للأشباح والعفاريت، الذين ظهروا في ثنايا طياته فيما بعد، وأحالوه إلى كابوس مرعب.

لا علاقة للنوستالجيا بتذكر تلك السنين التي صارت بعيدة، وإن كنتُ لا أبريء نفسي منها. ما استقطب ذاكرتي هو مشهد أؤلئك الشباب المحرومين من حاستي النطق والسمع، وكيف وثقت الإعاقة علاقاتهم، ووطدت صداقاتهم، وألفت ما بين قلوبهم، فتحولت جلساتهم ولقاءاتهم إلى فناء واسع، خاص بهم، يمرحون ويلعبون ويتواصلون في انفساحه كبشر أذكياء، يفيضون حيوية وحباً للحياة، في وقت يعجز فيه آخرون عن التواصل بكل ما أوتوا من مواهب الكلام. هذا الانقطاع في التواصل، واخفاق اللغة في أداء مهامها، يذكرني بمجموعة قصصية متميزة عنوانها " الجدران" وهي أول مجموعة صدرت للكاتب القاص المبدع يوسف الشريف. في تلك القصص كان يوسف الشريف، أطال الله عمره، يلفت انتباهنا في القصة التي حملت المجموعة اسمها عن الجدران التي شيّدها وصول النفط بين الناس، وما أحدثه من تغييرات، بين أبناء الشارع الواحد، والمنطقة الواحدة.

أحياناً، حين أرى انهيار جسور التواصل وغياب الحوار، وألمس فشل النطق في الافصاح عن المشاعر والأحاسيس والأفكار ليس خجلاً، أو رهبة بل عجزاً عن ايجاد معنى في كلمات تشق الطريق إلى عقول وقلوب الآخرين، أتذكر أؤلئك الشباب، وتعود بي الذاكرة إلى جلساتهم، وصخبهم، وأنسهم، وحوارتهم، وتنبثق في ذهني أسئلة كثيرة.

المشكلة،كما تبدو لي، ناجمة عن التغيرات المربكة التي حدثت سريعاً في ايقاع حياة المجتمع بعد فبراير 2011 . تلك التغيرات تناوبت فيما بينها على تشييد جدران وحواجز انتصبت فجأة بين أبناء شعب واحد، وثقافة واحدة، وجعلت من السهل، في ظل الظروف الاستثنائية التي يمر بها المجتمع، الاحتكام في الخلافات إللجوء إلى لغة العنف، كلغة بديلة وبهدف الإخضاع والسيطرة والتحكم.

التغيّر ليس سهلاً، وهو مؤلم جداً. ولا تنجو من تداعياته اللغة.