Atwasat

خلدونيات

رافد علي الخميس 11 يونيو 2020, 10:43 صباحا
رافد علي

استهل ابن خلدون أبحاثه في العمران البشري بست مقدمات، الأولي حول الاجتماع والسلطة، والثانية عن قسط العمران من الأرض، والثالثة عن تأثير الهواء في ألوان البشر وأحوالهم، وتناول في الرابعة أثر الهواء في أخلاق الناس، وفي الخامسة اختلاف العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار، والسادسة خصصها لأصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة والرياضة. لقد كانت المقدمات الثالثة والرابعة والخامسة محل تجاذب الكثير من البُحاث في تعاطيهم مع الطرح الخلدوني سلباً وإيجاباِ بشكل عام. أما المقدمة السادسة فلم تكن محل اهتمام وتركيز عند أغلب المهتمين كونها "تحمل الطابع اللاعقلاني" في المقدمة، حسبما يقول محمد الجابري في كتابه العصبية والدولة(1).

اختلفت الآراء والتحاليل حول الطرح الخلدوني في مقدمته وتباينت وجهات النظر حول موضوع دراسته واهتمامه، فساطع الحصري في كتابه "دراسات عن مقدمة ابن خلدون" يري أن العصبية هي المحور الأساس، في حين يعتقد علي الوردي في "منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته" أن الصراع بين البدو والحضر هو الموضوع الرئيس، بينما يذهب الجابري في مؤلف فكر ابن خلدون إلى أن نظرية الدولة هي بؤرة اهتمام صاحب المقدمة، فالعصبية وسيلة حكم، والبداوة والحضر نمط اجتماعي في الدولة له طبيعته وخصائصه وتفاعلاته وتجلياته.

لقد شرع ابن خلدون في كتابة المقدمة في قلعة ابن سلامة التي أقام فيها اربع سنوات منكباً علي الكتابة تاركاً اي مشاغل أخرى بما فيها طموحه السياسي لأن يكون رجل سلطة ونفوذ(1)، وتثبت الأوضاع التاريخية أن ابن خلدون قد كتب مقدمته مرتين، الأولى في القلعة المذكورة، والثانية كانت بمصر عندما نزل بها، وهذا ما يجعل البعض يعتقد بأن "الاستطراد" في بعض مواضيع المقدمة، كما هو الحال في وضع الباب السادس الوارد بمؤلفه، علي سبيل المثال، تمت صياغته في مصر، الدكتور الحصري في كتابه المذكور أعلاه يميل إلي هذا الطرح. ويدعم الجابري فكرة الاستطراد عند الحصري من خلال تحليل صياغة ابن خلدون لأفكاره، فهو حين يذكر المشرق العربي كغائب يكون المغرب العربي مصاغاً في صيغة الحاضر بما يثبت أنه يكتب بالمغرب، والعكس صحيح.

يستخدم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة مصطلح "العرب ومن في حكمهم " كالأكراد والتركمان ويضيف إليها بعض البُحاث الأمازيغ، كونه ممن احتك معهم في تنقلاته العامة وأسفاره كمتنقل أو كسفير لولىّ الأمر، لكن ما هو مثير للجدل فعلاً عند ابن خلدون هو حين تناوله لحالة انتقال العرب من البداوة إلي التمدن تكون آراؤه متناقضة كما يري العديد من المهتمين. فالحضارة عند ابن خلدون توجد في المدينة، والبداوة حالة "همجية" بعيدة عن أي تمدُّن، وحالة الانتقال إلى الحضارة تعد مرحلة تنفي البداوة باعتبارها مرحلة لاحقة لها تأتي ضمن حركة التاريخ القائمة عنده على أسس التنازع البشري بين البدو والحضر، يبدو ذلك واضحاً عنده من خلال حديثه عن الأجيال، إذ يعتبر "جيل البداوة" سابقا لـ "جيل الحضارة(2).

ويبدو التناقض الخلدوني عموماً في أنه يصوغ مزايا للبدو عرباً وسواهم، ثم يعود لينفيها عنهم في حالة تحضرهم أو حين انتقالهم للمدينة أو مرحلة الدولة. علي سبيل المثال قوله إن العرب بعيدون عن الصناعة أو الابتكار كما عند العجم وأهل الصين، ولكنه يعود ليتحدث عن صنائع العرب القدماء في اليمن والبحرين وعمان. وهذا التناقض يجعل البعض الصفات السلبية للعرب والأعراب عند ابن خلدون محصورة في قبائل بني هلال وبني سليم الذين عاثوا فساداً بالشمال الأفريقي بوازع من الدولة الفاطمية لتصفية حساباتها السياسية مع الحكام بالمغرب العربي، كما يفسر الجابري بكتابه "العصبية والدولة".

لقد اختلف الدارسون في الحكم علي هذه التناقضات الخلدونية، فهنالك من يحاول التخفيف من حدة هذا التناقض في التصنيفات الخلدونية كون أن صاحب علم العمران قصد الأعراب، إذ إن العرب ومن في حكمهم قد أبدعوا وأثروا من خلال احتكاكهم بالحضارات الأخرى، من أبرز رواد هذا الاتجاه ساطع الحصري. في حين ذهب آخرون للاعتراف بوجود حالة هذا التناقض ضمن الطرح الخلدوني، وأنها جزء من الأخطاء التي تؤخذ عليه، دونما الإقلال من نظريته في الاجتماع. وفي هذا الصدد كتب جرمان عياش بحثا في هذا الاتجاه(3). في حين يُقصر المفكر الراحل محمد عابد الجابري، وصاحب الأطروحة حول ابن خلدون بسبعينيات القرن الماضي؛ يُقصر الأمر في حالة تناقض نظري، ولا عيب منهجيا رغم التحاملات الخلدونية، باعتبار أن ابن خلدون يكشف فعلياً عن حالة تناقض عربي ولأمثالهم ممن انتقل من حالة البادية وشظف العيش إلى رغد المدنية، إذ إن الفوضي تحصيل حاصل إرباكي منطقي لإدراك البدو للتغير وتثبيت الشخصية في طورها الجديد.

قراءة مشرقية أخري تري أن اعتبار حصر حركة التاريخ في المقدمة بين حضر وبدو تسقط باعتبار أن هذا التقسيم يسقط في الزمن الحاضر المتمخض عن طفرات النفظ في العالم العربي. فالعلاقة بين البدو والحضر "لا ترتكز على التفاضلية أوالتضادية بقدر ما ترتكز على العلاقة الوظيفية التناظرية (السيمترية) التي تربط بينهما والتي تقوم على تبادل الخدمات والمصالح والسلع، من هذا المنظور البنائي الوظيفي لا يمكننا اعتبار البداوة والحضارة مرحلتين ثقافيتين متعاقبتين على سلم التطور الحضاري إحداهما تسبق الأخرى، بل هما وسيلتان مختلفتان لكن متكاملتان...(3) .

لا شك في أن هنالك العديد من الانتقادات الراديكالية التي توجه لابن خلدون بسبب الاعتقاد بأنه "عنصري"، ضد العرب بسبب حمولة الدلالات القاسية في أوصافه للعرب كوصف "الوحشية" وكونهم "أمة لا تنقاد بالسياسة" كما يرى عبدالهادي دهراوي في"هل كان ابن خلدون عنصرياً؟ "، كما يصب علي الوردي جام غضبه على ابن خلدون حينما يستعجب من وصفه للعرب والأعراب بالهمج ودون الحضارة وهو الذي عايش اجتياحات وفوضي المغول والتتار للعراق والشام ولم يمنعه هذا من التودد والسعي لبلاط تيمورلنك(4). و لعل من أبرز الانتقادات لابن خلدون رديكاليةً تلك التي تأتي من سلامة موسي الذي هاجم ابن خلدون في كل أطروحته َمعتبراً إياه، علاوة علي العنصرية، سارقا لأفكار أخوان الصفا في كل ما كتب ونسبها لنفسه، جاء ذلك في مقالة له نشرت منتصف القرن الماضي تحت عنوان ابن خلدون والعرب المنشورة في كتاب بعنوان مقالات ممنوعة عن دار هنداوي.2011

من يطالع مقدمة ابن خلدون، بغض النظر عن ميولاته وأساليب منهجه، سيدرك حقاً اننا-عربا ومن في حكمهم- لازلنا سجناء أزمان عتيقة كوننا نحيا بممارسة ذات الأخطاء ونحن بقلب المحنة ذاتها، والتي خصصها ابن خلدون وحاول الخوض فيها عبر تجربته ومطمحه مع مجتمعات الحضر والبادية كتجربة في حياته إلى أن واتته المنية. فالقلاقل السياسية وحالة عدم الاستقرار الاجتماعي وسطوة الاجترار المعرفي التي عايشها ابن خلدون في العقلية العربية لازالت روحاً سائدة في يومنا العربي الحاضر، مع الاختلاف الزمني والشكلي لذواتنا. فحالة الارتباك العامة للشخصية العربية والمستعربة أيضاً، المعروفة بنزعتها التصادمية، كذلك التخبط في أروقة الحاكم بروح المكابرة الواعية بعنادها أو بغير وعي، تظل أشياء متجذرة بنفسياتنا وذهننا بما يتجاوز الأكاديمية تحليلاً، وبما قد يجرنا للبحث عن "دين الحب": التعايش بطريقة أكثر تسامحاً، كما هي متوقدة في "دين الحب" التي تشكل محنة فكرية عربية أخرى، لا تقل جدليةً باعتبارها وليدة فكر شيخ الصوفية ابن عربي.

الهوامش:
(1) محمد عابد الجابري، فكر إبن خلدون العصبية والدولة. مركز دراسات الوحدة العربية. ط9. بيروت. 2011
(2) المقدمة.
(3) جرمان عياش، دراسات في تاريخ المغرب العربي. دار النشر المغربية. الدارالبيضاء. المغرب. 1986.
(4) قاسم الرويس. صحيفة الرياض، عدد15534. المملكة السعودية.
(5) علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي. دار ومكتبة دجلة والفرات. بغداد. 2013