Atwasat

الغنوشي وديمقراطية الترام

سالم العوكلي الثلاثاء 09 يونيو 2020, 04:45 صباحا
سالم العوكلي

في شهر مايو، ومنذ بداية ثورة فبراير، وحين كان جماعة الأخوان الليبية العائدين من مشاريعهم التجارية في الدول العلمانية يُستقبَلون بحفاوة، ويرتدون البدلات وربطات العنق مبتسمين للجميع، يهمسون في أحاديثهم، ويوزعون الأموال من حقائب يحملونها على الناس المخدوعة فيهم، منذ ذلك الوقت كتبت مقالة بعنوان "احذروا الفاشية الثالثة" ومقالة أخرى بعنوان "اللاوعي السياسي" بجريدة ميادين لصاحبها أحمد الفيتوري، أحذر فيهما من هذه الجماعة، ولأنها في تلك الوقت كانت تحاول أن تظهر كملائكة انخدع بها البعض، وفي حوار مع بعض أصدقائي كانوا محتجين على مقالتي، وعلى أساس أن النظام الديمقراطي يستوعب الجميع، وإن رأيي إقصائي ويتناقض مع جوهر الديمقراطية. كان كلامهم لا يخلو من وجاهة، لكن ردي حينها تلخص في كوني لست سياسيا، ولكني أحسب نفسي على الثقافة، واعتراضي منطلقه ثقافي وفكري يعترض مبدئيا على تسييس الدين، وأن أي جماعة أو حزب سياسي منشؤه ديني هو مشروع فاشية.

في مقالة (اللاوعي السياسي) التي نشرتها في العدد العاشر من جريدة ميادين بتاريخ 19 يوليو 2011، كتبت: "سيبرز هذا الاتجاه (وأعني استغلال حالة اللاوعي الشعبي) من جديد وبقوة مع الثورات العربية الراهنة، والتي يعمل من يحاولون سرقتها على تأجيج مظهر اللاوعي السياسي أو استثماره... ومع إخفاق جل المشاريع السياسية الأخرى شكلت النزعة الدينية في العقود الأخيرة في منطقتنا أحد مظاهر اللاوعي السياسي بشكل يشبه ما صاحب الحروب الصليبية من دعاية أو تنظيرات النازية والفاشية... تظهر أزمة مثل هذه الخطابات جليا في أدبيات الأخوان التي تنطلق من مرجعية دينية وتدعو في الوقت نفسه لقيام دولة مدنية دستورية في حالة واضحة مما يسميه المفكر الإيراني داريوش شايغن "التصفيح" أو التلفيق الذي يمزج بشكل مضحك بين حقلين معرفيين مختلفين تماماً. والنموذج الإيراني هو الأوضح".

الديمقراطية بالنسبة لمن يسمون أنفسهم الجناح الإسلامي المعتدل ما هي إلا مجرد سلم يوصلهم إلى السلطة ثم يسقط، وهذا هو تكتيك تنظيم الأخوان منذ أن فشلت كل محاولاته السابقة عبر الاغتيال السياسي، أو نشر الإرهاب، أو التحالف مع قوى دولية، أو نظم دكتاتورية محلية والتغلغل فيها للوصول إلى السلطة، فاستغلوا واقع ما بعد الربيع العربي كي ينتهزوا فرصة أن لا قوى سياسية أخرى غيرهم منظمة وممولة بقوة لكي يستخدموا صناديق الاقتراع للوصول إلى السلطة، ونتيجة لتفشي حالة شاملة من اللاوعي السياسي الذي يشكل بيئة خصبة للتيارات الدينية المدغدغة للوجدان الشعبي الورع كي تنجح فيه وتنمو، وبسب غياب القوى السياسية التقدمية بعد عقود من التنكيل بها من قبل الأنظمة الشمولية التي كانت تضربها بالإسلام السياسي نفسه، نجحت هذه الجماعة للوصول ديمقراطيا إلى السلطة في مصر وتونس، وكان فشلها في ليبيا في أول انتخابات مفاجئا للمحللين والمتتبعين، وحين أخفقت في ليبيا في النجاح عبر الصندوق عادت لطبيعتها الأصيلة فاستخدمت المال السياسي والميليشيات والسلاح في السيطرة على مفاصل الدولة، وأجهضت المسار السياسي الذي اختاره الليبيون عبر ما سمته حرب فجر ليبيا التي أدت إلى انقسام البلد ومؤسساتها السيادية، وذهبوا بليبيا إلى مصير آخر مازلنا نعيش تبعاته حتى الآن، ولأنه لا يمكن مواجهة السلاح إلا بالسلاح، عادت المؤسسة العسكرية للواجهة السياسية وقلصت حظوظ الدولة المدنية الديمقراطية كهدف أساسي للربيع العربي.

في ليبيا وصل الحل السياسي إلى الانسداد بسبب خلاف الخصمين، إيطاليا وفرنسا، ووصل الحل العسكري إلى الانسداد بسبب الغزو التركي والتنسيق الفاشل بين الخصمين، تركيا وروسيا، ومع هذا الانسداد تجد ليبيا نفسها أمام مسار واحد، وهو حرب استنزاف أهلية قد تستمر لعقود، مثلما حدث في أفغانستان أو الصومال أو كولمبيا، وكما حدث قبل قرون يعود الحنين التركي للماضي الإمبراطوري مستغلا الفوضى في المنطقة بعد أحداث الربيع العربي، وسدنة هذا الحنين هم جماعات تنظيم الأخوان الذين يشاركون أردوجان عقيدته ولا يرون إمكانية لتحقيق مشروعهم فيما يخص الأمة والخلافة إلا عبر القوة التركية التي تجهز لمئوية اتفاقية لوزان لتحرر العام 2023 من أعبائها وتستعيد الشجن التاريخي للإمبراطورية الآفلة، والعودة إلى مجالها العربي من جديد بعد أن أخفقت في الالتحاق بالفضاء الأوربي بسبب سجلها السيء فيما يخص حقوق الإنسان، وعدم اعتذارها عن مجزرة إبادة الأرمن.

ما جعلني أعود لكتابة كل هذا هو الغليل الذي يسكنني، ومنذ الشهور الأولى لثورة فبراير، ضد هذه الجماعة التي كنت أعرف كما الكثيرون أنها ستعيث في ليبيا خرابا مثلما كان تاريخها أينما استيقظت خلاياها، وما جعلني أيضا أكتب هذا الهجوم اللفظي الذي شنه بعض النواب التونسيين على رئيس البرلمان، الغنوشي؛ الذي يعتبر الآن أقدم طاغية في المنطقة العربية بتربعه على عرش رئاسة حزب النهضة لأكثر من 50 سنة، والذي يحاول أن يعيث في الديمقراطية التونسية خرابا، والذي استغل حزبه حالة اللاوعي السياسي، خصوصا في الأرياف والمناطق الفقيرة، كي يستجدي أصوات التونسيين المحبطين في صناديق الاقتراع، ليصل عن طريق الديمقراطية شخص عقيدته ومشروعه ضد الديمقراطية إلى أعلى منصب في السلطة التشريعية.

يتهمه قطاع كبير من النخب والشارع التونسي بالتدخل في صلاحيات الرئيس، وممارسة العمل الدبلوماسي الذي هو دستوريا من اختصاص رئيس الدولة الذي في الواقع ليس له اختصاصات كثيرة، غير أن من يتهمونه مخطئون، فالرجل متسق مع نفسه وعقيدته، ولا يعتبر ما يقوم به نوعا من الدبلوماسية أو التعامل مع الخارج، طالما المسلم في أي مكان هو مواطنه، والعلماني أو الوطني هو الخارج الذي يحتاج إلى دبلوماسية حتى وإن كان تونسيا، لذلك فالرجل يستغرب هذه الاتهامات الموجهة ضده وينكرها لأنه مخلص لعقيدته ومشروعه المتعلق بالأمة الإسلامية التي لا تفصل بينها حدود، ولأنه يعرف أن الديمقراطية التي أوصلته لهذا الكرسي ما هي إلا وسيلة مؤقتة تجاه السعي إلى مشروع الأمة، وأقرب شخص له في هذا المشروع هو أردوجان وليس النواب المثقفين الذين مازالوا يتحدثون عن تونس ولا الذين انتخبوه كي يحل لهم مشاكلهم اليومية داخل حدود تونس. في خطاب ألقاه أردوجان العام 2002 حين فاز حزبه لأول مرة وأصبح رئيس وزراء، قال بالحرف الواحد: "الديمقراطية وسيلة وليست غاية، وهي مثل الترام الذي عليك أن تنزل منه حين تصل إلى المحطة". وهذا ما فعله أردوجان ــ الذي سُجن العام 1994 بتهمة تحريضه على الكراهية الدينية ــ حين تمكن وبدأ يشيد دكتاتوريته السلطانية فوق صناديق الاقتراع التي أوصلته إلى محطة السلطة المطلقة بعد التعديلات الدستورية الأخيرة، وهذا ما يسعى إليه حزب النهضة الإسلاموية في تونس، وما يقف وراء التحالف الغنوشي/ الأردوجاني، على حساب مصالح تونس وأمنها القومي.