Atwasat

العلاقة بين القانون والفنون

جازية شعيتير الأحد 07 يونيو 2020, 03:23 صباحا
جازية شعيتير

للفن في عالم ما بعد الحداثة وجوه كثيرة تتعدى الفن السابع بكل تأكيد، وللفن آثار مباشرة، وغير مباشرة على الصعد كافة والمستويات كلها، يشار إليها كثيراً بمصطلح "أثر الفراشة". والعلاقة بين الفن والقانون علاقة معقدة تتعدد فيها المؤثرات والتأثيرات؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر.

تصاغ بعض القوانين في خدمة الفن والفنانين وهم في مسيس الحاجة لها مثل قانون التنظيم النقابي للفنانين، أو قانون حق المؤلف والحقوق المجاورة له الحامي لحقوق الملكية الفكرية. كما أن الفن له قواعد حاكمة وإن لم تكن قانونية بالمعنى التقليدي، ولعلها قواعد تحتكم للجمال دون سواه ومنها مثلاً "قانون نسبة القطاع الذهبي". كما أن القانون ينظر إليه من زاوية من زواياه بأنه فن، ولعل فن "الصياغة" خير دليل؛ فهو تعبير عن الجانب الفني للسياسة التشريعية من خلال احتواء الحكم الموضوعي في قالب شكلي مناسب. نثير في هذا المقال مسألتين فقط من بين عديد المسائل المثارة بالخصوص:

المسألة الأولى: تأثير الفن في القانون
بمعنى؛ هل يمكن أن يكون الفن رسالة مجتمعية للسلطة التشريعية بشأن قاعدة قانونية معينة يقوم المشرع على أثر تلقي الرسالة بالاستجابة للمطلب المجتمعي سواء كان بسن قاعدة غير موجودة أو بتعديل قاعدة سبق سنها ومعمول بها؟
أسئلة مثيرة للاهتمام ويمكننا الاستدلال على ذلك بمقالة مصرية نشرت في أواخر 2019 دللت على الإجابة بنعم بجملة من الأفلام المصرية التي تأثر بعدها المشرع المصري وعدل السياسة التشريعية خاصته؛ فيلم "كلمة شرف" أعطى للسجين الحق في زيارة أهله بضوابط محددة اجتماعية طارئة "أريد حلا" سمح للمرأة المصرية بالخلع، و"جعلوني مجرما" ألغى احتساب الجريمة الأولى من الصحيفة الجنائية للمصريين.

ولكن من المهم أن نتريث في إجابتنا، لنتذكر كم الأفلام السينمائية والأعمال التلفزيونية المشيرة للفساد وصنوفه ولم تحرك الدول ساكناً تجاهه. كما أن كثيرا منها أشار للدكتاتورية ومآسيها، بالتصريح حيناً وبالتلميح في أحايين كثيرة، ولم يلتفت الدكتاتور لذلك من قريب أو بعيد. أطفال الشوارع، والعنف الأسري، والخيانة الزوجية، وتعاطي المخدرات، والمثلية، وغيرها من الظواهر الاجتماعية التي أخذت مساحة كبيرة من الأعمال الفنية ومع ذلك كان تأثيرها على السياسات التشريعية غير ملموس أو على الأقل بطيء جداً.

• من جهة أخرى لا نستطيع أن نغفل الإشارة إلى الكم الهائل من المشاهد العارضة للنصوص القانونية وللإجراءات القانونية بما يبلور صورة ذهنية لدى المتلقي غالباً ما تكون مبالغا فيها إن لم نقل غير حقيقة. فبعض المشاهد تظهر نظامنا الإجرائي معتدا باعتراف المتهم وهو غير حقيقي، وبعضها تطيل أمد المرافعة وتفرد لمرافعة المحامي وقتاً من عمر المسلسل لا تتيحه هيئة المحكمة من عمر القضية للمحامي، مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" تولي شهادة الشاهد الوحيد على جناية القتل العمد أهمية كبرى تفوق أهميتها في الواقع القانوني!! وقد تفنن كثير من نجوم الفن المصري في لعب دور المحامي ووكيل النيابة وتظل لقطة الطرق بالمطرقة ولفظة "محكمة" من اللقطات القضائية المؤثرة في قلوب المشاهدين.

• المسلسل المصري "طلعت روحي" المعروض مطلع العام الفائت ( يناير 2019) على قنوات c b c وتدور أحداثه حول وقائع قانونية شائكة، واختيرت شركة محاماة لتكون مسرح أحداثه ولكنه مأخوذ عن فورمات أجنبية عن قصة المسلسل الأمريكي Drop Dead Diva، وبالتالي اقتبست حتى المشاكل الاجتماعية والقواعد القانونية مما يجعل المتخصص في القانون الإقليمي يستغرب هذا الاقتباس الخيالي خاصة أنه يقوم أساساً على فكرة حل المشكلات القانونية. فمثلاً هناك قضية فتاة تكتشف أنها ليست بنت الأسرة التي تعيش معها بعد أكثر من 20 عاما وترفع دعوى قضائية على المستشفى التي تكتشف أنها قامت بتبديلها مع طفلة أخرى، وهناك قضية الفتاة التي ترفع دعوى تعويض على شركتها لأنها تعتمد في تسويق بضاعتها على تأثير جمال عاملاتها في العملاء، وغيرها الكثير...

• أتذكر أني استمعت مرة لدعوى اثبات الضرر المرفوعة من أسماء المنور ضد كاظم الساهر أمام قاضي الأحوال الشخصية في أغنية " المحاكمة"، لم تثر اهتمامي لأنها تقليدية جداً؛ فالزوجة تتهمه بالإهمال الزائد، ويدافع عن نفسه باتهام الزوجة بالغيرة المفرطة!

لكن حين شاهدتها مصورة بإخراج المبدع "حسين دعيبس" استطاع لفت نظري بقدرته على التعبير الفني بدلالات مختلفة للفظة "القاضي" والذهاب بها من المعنى الضيق إلى معاني أكثر اتساعا: بدءاً بالموظف الذي تكلفه الدولة بمهام الفصل بين المتقاضيين، ثم الحكم الوسيط الذي يرتضيه طرفا النزاع ، ثم ذكرني بالمتنبي حين جعل المدعية تقدم شكواها بين يدي الخصم "زوجها" ، وأخيراً أشار إلى المفهوم الرحب: قاضي السماء الحق العدل، كل ذلك في قصة قصيرة بعمر الأغنية وبأسلوب فني جميل. هل كانت الأغنية المصورة تشير إلى بدائل الدعوى القضائية التقليدية؟

وهل يمكننا أن نطمح في توظيف الفن لخدمة القانون، عبر إنتاج نصوص مسرحية أو تمثيلية أو سينمائية، تتضمن نصوصا قانونية مهمة أو تحاول معالجة مشكلة قضائية قائمة، في محاولة لإرشاد الجمهور للطريق الصحيح وإعلامهم بالآليات القانونية الواجب عليهم اتباعها تجنبا للمشاكل المحتمل الوقوع فيها حال جهلهم بحقوقهم وواجباتهم.

المسألة الثانية: تأثير القانون على الفن
عندما يشار إلى القانون بوصفه شرطياً لتنظيم سير الفن والفنانين يشتكي هؤلاء من التقييد التعسفي لحريتهم، مدعين أن حرية التعبير شرط لازب للإبداع. وإن كانت وقائع هذا التماس كثيرة الحدوث على المستوى الإقليمي على الأقل، سأختار فقط واقعتين حديثتين، على سبيل التدليل إحداهما إقليمية والأخرى محلية:

• على صعيد إقليمي لفتت نظري المطالبات الكثيرة بإيقاف برنامج "رامز مجنون رسمي" المذاع في رمضان على شاشات خمس من القنوات العربية والذي حقق نجاحا كبيرا، وأعلى نسبة مشاهدة.

وقد حاول كثير من القانونين والحقوقيين شجب البرنامج وما يذاع فيه؛ فهو أشبه بصورة مصغرة لعنف الجلاد تجاه "السجين"، حيث يعتمد البرنامج على خداع "الضيف" وربط وثاقه بكرسي أشبه بـ "كرسي التعذيب" في السجون، ثم يظهر "رامز" ليُمارس ساديته وعنفه على "الضيف" بشكل فظ، حتى تنتهي الحلقة بالمصالحة عادةً. إذا هو يعمل على استعذاب العقل الجمعي لأساليب التعذيب وضروب المعاملة القاسية والمهينة اللا إنسانية.

عًد الكثيرون البرنامج انتهاكا عمديا ممنهجا لحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان لا يجوز المساس بها وإن رضى الضحية بذلك، والمقصود بالضحية هو المستهلك "المشاهد" لا ثلة الفنانين المساهمين عمدا في ارتكاب الانتهاك. ومع ذلك انبرى كثير من الحقوقيين أيضاً للدفاع عن البرنامج وفريق إعداده ومقدمه بحجة حرية الإبداع وحق التعبير، من جهة، ومكنة المستهلك من اختيار المادة الإعلامية، فلا إجبار عليه في مشاهدة البرنامج الكوميدي ذي الهدف الترفيهي، من جهة أخرى.
وقد شهدت ساحات القضاء المصري ترجمة عملية لهذا السجال، ففي حين رفعت بالفعل دعوى المطالبة بوقف عرض برنامج "رامز مجنون رسمي"، رفضتها محكمة القضاء الإداري وأيّدت استمرار عرض البرنامج، مؤكدة أنه "لا يحمل أي تهديد للأمن القومي المصري أو تحريض على العنف أو التمييز"، وذكرت المحكمة أن "الحق في حرية التعبير يتسم بأهمية قصوى في أي مجتمع ديمقراطي، وأن أي تقييد لممارسة هذا الحق يجب أن يفي بمعايير صارمة لتبريره".

• على صعيد محلي لفت نظري في الآونة الأخيرة الانتقاد الموجه لمسلسلات محلية واتهامها بأنها أما مزورة للتاريخ كتاريخ ليبيا الحديث مثلاً، أو بالإساءة لجماعة معينة من المجتمع الليبي كالبدو مثلاً، أو بالإساءة لفئة معينة من فئات المجتمع الليبي كذوي الإعاقة مثلاً. وبعض النقد وصل إلى حد القول بوجوب التقدم للقضاء بادعاء ضد القناة العارضة للمسلسل للمطالبة بتعويض مالي كبير جداً، يخصص لإنتاج أعمال فنية تجبر الضرر وترد الاعتبار لمن أصابهم الضرر المعنوي جراء العمل الفني من خلال تحسين صورتهم وبيان القيم الإيجابية لديهم. وبغض النظر عن التقييم الفني للعمل، يلفت نظرنا هذا المطلب القانوني. ونتساءل عن مدى إمكانية تحقيقه. الدعاوى تحتاج إلى شرطين في مقدمها: المصلحة والصفة، فلن تقبل دعوى من غير ذي صفة وإن توافرت له المصلحة والعكس صحيح، وكما اتضح من ردود فعل تلك الفئة من فئات المجتمع الليبي "أصحاب المصلحة" فإن المسلسل قد لاقى قبولاً كبيراً في مختلف أوساطها.

* مريم محي الدين في صحيفة الشارع الجديد.