Atwasat

تلك الرائحة

جمعة بوكليب الخميس 04 يونيو 2020, 02:17 صباحا
جمعة بوكليب

لا أعرف كيف تعاملت ذاكرتي مع المسالة وقتياً، وجمعت بين حدثين تفصلهما مسافات زمنية، في بلدين وثقافتين مختلفتين وفي قارتين متباعدتين. لكن للذاكرة الانسانية آلياتها وحيلها الماكرة، ووسائلها غير المعروفة لنا. فما إن وقعت عيناي على الرسم الكاريكاتوري الصغير، بالأبيض والأسود - لم أعد أذكر إن كان في صحيفة أو مجلة، أوفي مكان ما من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي- حضرت في ذهني على الفور" تلك الرائحة"، أول رواية للكاتب المصري  المبدع صنع الله ابراهيم. 

تلك الرائحة، رواية صغيرة الحجم جداً " Novella" لاتتجاوز ستين صفحة من القطع الصغير، كتبها صنع الله عقب خروجه من السجن عام 1964 ونشرها على حسابه الخاص في مطبعة صغيرة مجهولة، عام 1966، وأشاد بها القاص والروائي الكبير المرحوم يوسف ادريس، في السطور القليلة التي قدّم بها الرواية.

الرواية تعرضت للمصادرة.  والعديدون من النقاد والكتاب والمحسوبين على الوسط الثقافي المصري، آنذاك، لم يتقبلوا جرأتها في الطرح، ولم يغفروا لكاتبها طموحه الفني والابداعي في وضع يده على مكمن الداء، وكشف المستور، بأسلوب سردي وجمالي مختلف، بل ان أحدهم، وكان مسؤولا كبيراً عن الثقافة، قام تطوعا بتسليم نسخة منها للقيادة السياسية للعلم!

الصورة، التي استقطبت اهتمامي، واستدعت إلى ذاكرتي الرواية، صغيرة الحجم، وكأنها رسمت بخطوط سريعة، على عجل، لكنها عميقة، وفي القلب من الهدف. بمجرد أن تراها لابد وأن تستشعر بنغصة في مكان قصيّ في قلبك. مكان لم يلوث بعد. رجل أبيض يعتمر قبعة، أمريكي، يجلس على سور حجري قصير قد يكون لحديقة منزلية أمامية، . وإلى جانبه، وعلى يمينه، جلس طفل أسود. أختار الرسام أن يرسم الاثنين جالسين على السور الحجري القصير من زاوية خلفية، والاثنان يوليان ظهريهما للرائي. وجه الرجل بملامح مستريحة، ويبدو مبتسما وقد التفت بوجهه نحو الطفل الأسود يسأله مداعباً وملاطفا بود عما يتمنى أن يكونه عندما يكبر. وجه الطفل وهو رافع رأسه نحو الرجل للاجابة على سؤاله ترتسم عليه علائم رعب. قال الطفل أريد أن أعيش! شعرت، أولاً، بنغصة في قلبي، ثم ثانياً، تذكرت على الفور "تلك الرائحة."، وكأن العلاقة بين العنصرية والديكتاتورية يربطهما سلك خفي، ويتسمان معاً برائحة معينة، متميزة، ولاتطاق من شدة عفونتها، مهما تباعدت المسافات جغرافياً وتاريخياً. 

خطوط اللوحة باللونين الأبيض والأسود وكأن الفنان الرسام  أراد بذلك التأكيد على استمرار حربهما التاريخية، أو بالأخرى حرب من طرف واحد. حرب اللون الأبيض ضد نظيره الأسود، كما تبدت في جولة أخرى، من جولاتها التي لا تنتهي، في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، بأمريكا، قلعة الديمقراطية، وحصن الحرية الحصين، للجنس الأبيض، أما غيرهم  فهم مجرد " ثقل فوق الحصان" لا غير.

ما حدث في مينيابوليس، مؤخراً، من قتل متعمد، علني، و"على عينك ياتاجر"، ، يسمنا جميعا بميسم الخجل أخلاقياً. ويجعلنا نششعر وكأن التطور البشري في رحلته الطويلة والمرهقة والناجحة في مختلف المجالات والقطاعات، مازال أخلاقيا يراوح في نفس المكان، مهما تغيرت الرايات، ومهما تكاثرت الشعارات، وتعددت متنوعة. 

امريكا ليست حالة فريدة، حين تكون العنصرية موضوع حديث. ونظرة واحدة من حولنا تكفي. لكنها في العمق منها، تجسد أكثر وأحلك تجليات الميز العنصري، وأكثرها وضوحا وثقلاً أخلاقياً على الضمير الانساني الحر. وتبدت خطورتها أكثر منذ عام 2016 الذي يؤرخ لوصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في واشنطن، محمولا على أصوات ناخبين وثروات داعمين بجذور عرقية عنصرية، تعترف بأحقية جنس بشري، بمواصفات جينية، على استعباد غيره من الاجناس. 

خلال الفترة القادمة ستقوم شركة نتفليكس للانتاج السينمائي بعرض شريط جديدا من أخراح المخرج الأمريكي الأسود سبايك لي. 

ما يميز هذا الشريط هو أنه يتصدى، وجها لوجه،  لأول مرة، في تاريخ السينما الأمريكية لمحنة ومعاناة الجنود والمجندين الأمريكيين السود في فترة حرب فيتنام. الحرب في فيتنام أنتهت عام 1975 بدخول قوات جيش التحرير الفيتنامي مدينة سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية. ورغم الكم الهائل من الأشرطة السينمايئة التي أنتجت في استوديوهات هوليود إلا أنها وبأختلافها تجنبت الخوض في قضية العنصرية الامريكية المترسخة في كل المؤسسات الرسمية، والجيش احداها، ضد الأقلية السوداء، والتي كان أبناؤها يمثلون نسبة مرتفعة، مقارنة بنسبة عددها إلى العدد الاجمالي للسكان، في كوادر الجيش بسبب انعدام فرص العمل أمامهم في القطاعات الاقتصادية الأخرى. أكثر الضحايا في تلك الحرب من الامريكيين كانوا من الأقلية السوداء. لكن وسائل الاعلام الامريكية تتجاهل عمداً التعرض لهذة الحقيقة، كما تتجنب التعرض لغيرها من الحقائق ذات العلاقة بالمسألة العنصرية وتجلياتها العديدة.

في ولاية مينيسوتا الأمريكية، وبعاصمتها مدينة مينيابوليس، انبعثت، في الأسبوع الماضي، تلك الرائحة مجدداً، وتجاوزت عفونتها الحواجز والحدود، واستحوذت تطوراتها على نشرات الأخبار في العالم. لذلك السبب، قررت ُ العزوف عن متابعة الاخبار مؤقتاً، والاكتفاء بإعادة قراءة رواية صنع الله ابراهيم مرة أخرى.