Atwasat

صديقي مدمن المحاكم...

عبد السلام الزغيبي الأربعاء 03 يونيو 2020, 06:29 صباحا
عبد السلام الزغيبي

تقول الحكمة المعروفة "للناس في ما يعشقون مذاهب"، وربما من أغرب أنواع العشق وأكثرها تكلفة، وبالأخص على الصعيد النفسي والاجتماعي والأسري، الذي يحمله عدد من الناس للذهاب إلى المحاكم أو كما يطلق عليهم، "عشاق أو مهووسو المحاكم". ويصل هذا الحد من الهوس إلى ترددهم عليها يومياً أو بشكل شبه مستمر كأنه مكان مقدس، رغم أنه لا يمكن منعهم من ذلك كونه حقاً مشروعاً لهم. هؤلاء لديهم حب المعرفة والفضول في جلسات المحاكمات وبالذات التي تعقد بالقاعات في الجلسات العلنية.

هم أناس بسطاء تبدو على وجوههم الهشاشة الاجتماعية، ليسوا أطرافا في الملفات المعروضة على القضاء ولا تربطهم علاقة بها، يخصصون أوقاتا من حياتهم للتردد على قاعات المحاكم، لا لشيء سوى لمتابعة أطوار الجلسات المثيرة، حتى أصبحوا مهووسين بالاطلاع على مشاكل الناس وهمومهم داخل المحاكم، ودفعهم هذا الهوس إلى ترك أشغالهم والحضور إلى المحكمة.

حسب علم النفس، إن الطبيعة البشرية بها خصائص ومكونات وتختلف من شخص لآخر، ومنها على سبيل المثال إدمان شخص على شيء معين بسبب أو من دون سبب. هذا الشخص يرتبط بأمر معين. أي يعتاده ويصبح به مهووساً، حيث تجد من يقضي ساعات طوالا في المقاهي أو السوق قصد الحصول على الراحة، فقد يصاب باضطراب نفساني وتصبح حالته بمثابة مرض نفسي، لا يمكن أن يتخلص منه إلا بتردده على مكانه المحبب. لذا نجد منهم الأشخاص المدمنين على زيارة المحاكم الذين يرون راحتهم داخل قاعاتها ومتابعة القضايا المختلفة من جنح وجنايات باختلاف دوافعهم وخصوصاً إذا ما كانوا من المتقاضين. مشيرة إلى أنواع من الإدمان أو التعلق الاجتماعي الذي يصل إلى حد الهوس كـ "الهوس على التسوق وكرة القدم والنظافة".

تعرفت على واحد من هؤلاء بالصدفة، هو جاري ويكبرني في السن، وكنا معا في فرقة مسرحية، ولم أكن أعرف أنه مهووس بهذا الشئ، حتى جاء في يوم من الأيام غاضبا، يحكي لي عن شخص قصده من أجل تسهيل استخراج جواز سفر وإصدار تأشيرة سفر من فرع جوازات بنغازي (فرضت تأشيرة خروج على الليبيين الذين يريدون السفر للخارج ثم ألغيت). لكن صاحبه، قال له :"عليك وعلى فلان الفلاني، هذا الوحيد اللي يقدر يخدمك"، ورد عليه: "معقوله أنا ولد لبلاد نمشي نصبي على الصادشين* هذا "هضي عقابها"..

قلت له: "وانت مالك وماله، أمشي انهي موضوعك، وبعدين منين عرفت أنه صادشين؟ قالي:"شفته من كم يوم في المحكمة في قضية طلاق، وأنا استغربت لما عرفت أنه مش ليبي؟ قلت له: "أنت شنو أدير في المحاكم؟"
قالي: "كيف أنت مش عارف أني كل يوم غادي، نمشي نكسد بعد نكمل الشغل".. قتله شكلك فاضي، قالي عندي حكايات واجدة توا نحكيها لك.

في تلك اللحظة عرفت أن جاري كانت لديه هذه الهواية الغريبة - حسب نظري- وهو التردد على المحاكم وحضور الجلسات. كان يخرج حسب ما حكى لي من عمله مبكرا بأي حجة كانت ويذهب إلى قاعة محكمة بنغازي القريبة من عمله - لحسن حظه- ويحضر جلسات المحكمة من بدايتها ويسمع أقوال المتهمين والقاضي ومرافعة المحامي والنيابة، وأصبح يخصص جزءا من وقته للتوجه إلى قاعات الجلسات كلما أخبره أصدقاؤه بوجود ملف مثير يروج داخل ردهات المحكمة.

في كل مرة نلتقي كان يحكي لي ما تابعه في ذلك اليوم ويذهب، ويحضر في المرة الثانية مع حكايات مشوقة جديدة.

بعد مغادرته، كنت أتساءل عن الهدف الحقيقي من مثل هذا التصرف؟ هل هو مجرد هواية ورغبة في المعرفة؟ أم هو نوع من الفضول، والتطفل يرقى إلى درجة الهوس.. والإدمان..؟

عندما سألته في إحدى المرات بشكل صريح، لمذا تتردد على جلسات المحكمة؟ قال لي: "لست أنا وحدي الذي أتردد فهناك عدد آخر من الأشخاص يترددون على المحاكمة بصفة يومية حتى بات الأمر اعتيادياً بالنسبة لنا، قلت له "لكن الأمر يعتبر نوعا من أنواع الهوس، فأنت وهؤلاء لستم أطرافاً في القضايا المعروضة، والمحكمة ليست مركزا تجاريا أو مكانا للتسوق لقضاء بعض الوقت في قاعات الجلسات لتكون متنفساً لكم، وتمضية الوقت".

قال لي وهو يبتسم، لقد أصبح البعض من هؤلاء خبراء في القانون، يعرفون في العقوبات التي يمكن أن يصدرها القاضي، وما إذا كانت أحكامه مشددة أم مخففة لمعرفتهم المسبقة بطبيعة القضايا والأحكام.

قلت له: "وانت ما الذي اكتسبته من حضور جلسات المحاكم؟".

أجاب: "ترددي على المحاكم أكسبني تجارب في الحياة من خلال الاطلاع على مشاكل المجتمع الليبي، ومتابعة طرق ارتكاب الجرائم وقضايا النصب والاحتيال والسرقة والقتل والاغتصاب والفساد" وأضاف: "لقد أصبحت مهووسا بمتابعة قضايا كثيرة، لأن مشاكل المجتمع الليبي لا يمكن أن يعرفها الإنسان إلا من خلال المحاكم... إن إدماني على متابعة القضايا أكسبني خبرة في الحياة، لقد أصبحت ملما بجميع مشاكل المواطنين، وعلى دراية بمعطيات خطيرة حول أسرار المجتمع الليبي من خلال القضايا والنزاعات التي تنظر فيها المحاكم".

واضاف: "هل تعرف أن محكمته شمال بنغازي تسجل شهريا العشرات من حالات الطلاق، وأن هذه النسبة ثابتة منذ أعوام وقابلة للتناقص بالرجوع إلى بيت الزوجية، أو الزيادة وفق حالات الطلاق الجديدة".

ومن المواقف الطريفة والغريبة، التي حكاها لي جاري وصديقي أن هناك شخصاً يحضر دائماً معه وجبته الغذائية ويأخذ موقعاً معيناً في ساحة المحكمة، ويبقى جالساً مستمتعاً في وقته وبعدها يأخذ بالمرور على كل الغرف ويأخذ بالسلام على جميع الحضور والمتواجدين، ويحضر الجلسات ومن ثم يغادرها في موعد الدوام الرسمي كحال الموظفين، دون أن يعرف أحد السبب في قيامه بذلك أو طبيعة وظيفته.

المفارقة المحزنة في قصة صديقي هذا، أنه مات وحيدا في المستشفى دون أن يكون أحد من أقاربه شاهدا عليه، وهو الذي كان شاهدا على العديد من قضايا الناس في قاعات المحاكم.

* الليبيون العائدون من المهجر "مصر"