Atwasat

عشرة فرادي بربع.. يا سلام!

جمعة بوكليب الخميس 28 مايو 2020, 09:14 صباحا
جمعة بوكليب

يبدو أنني، من دون علمي، استغرقت في نوم عميق، لا يختلف إلا في عدد السنين، عن نوم أهل الكهف، أو هذا، على الأقل، ما تبيّن لي أخيرا، أو أنني، وحتى لا أُنعت بالمبالغة، ربما غرقت، على حين غفلة من نفسي، في خضم أمواج بحور تعقيدات واقعي اليومي، وما أصابه من ارتباك، منذ أن حلّ الوباء الفيروسي بكوكب الأرض، وأرعب سكانها واحتجزهم رهائن بين جدران البيوت، حتى صرت لم أعد أدري بما وقع أو يقع من حوادث حواليَّ. أو، ربما، أن العالم الذي عشتُ فيه، واحتواني طيلة العقود السبعة الأخيرة، لا علاقة له بالعالم الذي يعيش فيه غيري من البشر، وأعني، تحديداً، فئة من البكائين الندّابين من بني وطني الليبيين، طفوا في الشهور الأخيرة، على سطح الواقع كفقاعات، وبدأت أصواتهم، تتصاعد علواً وحسرة، بمرور الأيام، حزناً على انقضاء وتلاشي عصر سياسي ذهبي، لا وجود له إلا في أوهامهم، ومن أهم إنجازاته التاريخية والحضارية والأخلاقية، كما يدّعون: عشرة فرادي خبزة بربع دينار!

يا سلام!
حين تقرر أن تتصفح صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بغرض أن تطّلع على مسارات الأحداث وتطوراتها، يومياً، في تلك البقعة على خريطة العالم، التي من المفترض أن تكون وطناً، وتحولت بعد فبراير 2011 إلى ميادين لمعارك في حروب طاحنة خاسرة، وساحة لأكبرعمليات نهب للثروات الوطنية والمال العام، فإنه من الأسلم لك التزام الحذر، وأن تكون على حيطة مما ينصب لك، في الطريق، من فخاخ وشراك. والسبب، هو أن مواقع التواصل الاجتماعي، كما يؤكد الاسم، وجدت بغرض التواصل الاجتماعي. لكن صفحات المواقع الليبية المنتشرة فيها غيّرت المحتوى، بأن حوّلتها إلى ميادين حرب إلكترونية، بجيوش وساحات لمعارك ضارية سلاحها الكذب والتدليس والسباب والشتائم والتضليل وخطابات الكراهية إلى حد يشعرك بالتقزز. ولهذه الأسباب، ينُصح بألاّ يتورط المرء في تصديق كل ما يقرأه منشوراً في تلك الصفحات من أخبار.

ما يلفت الاهتمام، أخيراً، في أناشيد النشاز الليبية المتواصلة، على مواقع التواصل الاجتماعي، هو تصاعد ملحوظ في نبرة تحسّر وتوجّع على النظام العسكري السابق، لا تختلف عن الحسرة في نبرة من يتحدث عن عصر ذهبي ساد في ليبيا لعقود أربعة، لكن في فضاء مفارق، خارج الزمان والمكان المعلومين، واختفى متلاشياً، من دون علمنا!!

وأعترف أن ما يحدث في بلادنا، منذ ثورة فبراير 2011، من فساد وتحارب ونهب ومصائب أمر ليس عاديا، وفوق الوصف والاحتمال. وبالتالي، فإن هذا الوضع الإنساني غير المستقر والمرهق، ربما جعل عديدين، من غير أنصار النظام السابق، يتمنّون، سراً أو علناً، لو أن النظام العسكري تمكن من سحق الثورة وإنهائها، وبقي قطار الدنيا على قضبان مساره، ولم يغير اتجاهه.

هذه الأجواء المحبطة نفسياً، المهددة أمنياً، مهدت الأرض أمام أنصار النظام العسكري السابق، من بقايا لجانه الفاشية الثورية، الموجودين بيننا للظهور من أنفاقهم والانتشار، وتسريب الشائعات بهدف تقويض ما تبقى من استقرار هشّ، وزرع الرعب والخوف في النفوس، والتشكيك في كل شيء. وفي نفس الوقت، يحرصون في أحاديثهم على تكرار الإشادة بعصر ذهبي أضعناه، توطد فيه الأمن، وترسخ فيه الأمان، وكان فيه الخبز متوافراً ورخيصاً إلى حد أن يباع العشرة فرادي بربع دينار، بل ويقدم حتى علفاً للأبقار وللأغنام. وهم في خلال ذلك يتعمدون إخفاء ضوء الشمس بـ «جلوال»، وليس بغربال، وحقيقة أن الأمن والأمان المزعومين، كانا حِكراً على فئة قليلة، لا يطالها قانون، تتكون من قتلة وقوادين ولصوص وفاسدين. وأن باقي الستة ملايين ليبي عاشوا طوال عقود في رعب دائم، خوفاً على حيواتهم وشرفهم وأملاكهم. وأن الخبز الرخيص، إنما كان خبزاً مغموساً في الدم، ومذاقه أمرَّ من العلقم، لأنه كان معجوناً بمزيج من القمع والاضطهاد.

لو كان مقياس المجد والحضارة محدداً برخص الخبز وتوافره لكانت دول وأمم عديدة في سابع سماء مع الأقمار والنجوم علواً في سلم الحضارة. ولو كان توافر الخبز ورخص أسعاره مقياساً لمدى توافر الأمن والأمان لكانت الدنيا غير الدنيا.

الحقيقة، التي يتناساها أولئك عمداً، هي أن توافر الخبز ورخص ثمنه ليس إلا واحدة من مهام عديدة جداً من الواجبات المنوطة بأي نظام سياسي، إذ ما معنى وجود حكومة وقادة وإدارات ومؤسسات ما لم توفر خبزاً رخيصاً للشعب؟

وشخصياً، فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن اللعبة هذه لا علاقة لها بتوافر الخبز ورخص ثمنه. الهدف منها، في رأيي، هو تمهيد الطرق، وفتح الأبواب إلى عقول وقلوب المواطنين الليبيين لكي يتقبلوا عودة أشخاص النظام السابق تدريجياً، بزعم أن (خبراتهم!!!) السابقة تؤهلهم للجم الفوضى السائدة، وإعادة السيطرة على الأمور. انظروا من حولكم جيداً، وسترون أن أشخاصاً معروفين بسوء صيتهم ودمويتهم، ما زالت أياديهم تقطر دماً بما ارتكبوه، في السابق، من جرائم قتل وتعذيب في حق مواطنين ليبيين، داخل ليبيا وخارجها، قد بدؤوا، واحداً تلو آخر، وعلناً، في الوصول إلى البلاد. بعضهم بملفات معروفة بجرائم تعذيب موثقة قضائياً ودولياً!!