Atwasat

الأحزاب.. الديمقراطية.. وما بعدها

سالم العوكلي الثلاثاء 26 مايو 2020, 05:05 مساء
سالم العوكلي

استطراداً، وفي صدد حواري مع مقالة الزميل عمر الككلي السابقة* ــ التي أبدى فيها بعض الملاحظات عن إلغاء الدولة الملكية للعمل الحزبي وعن مقارنتها بالنظام اللاحق ومفهوم الدولة الحديثة ــ سأحاول أن أوضح وجهة نظري التي تتفق أو تتشاكل مع هذه الملاحظات:

فبعد حصول ليبيا على الاستقلال، وكمجتمع خام تبلغ فيه الأمية أكثر من 95%، وخريجو الجامعات الذين لا يتجاوزون العشرين شخصا، نشأت فروع لأحزاب عالمية وإقليمية عبر شبان متحمسين لشعارات تلك المرحلة التحررية، مثل حزب البعث، أو القوميين العرب، أو الحزب الشيوعي، أو حزب التحرير الإسلامي، وهي أحزاب تنتمي أيديولوجيا لتيارات أو أحزاب إقليمية أو عالمية، وشعاراتها لم تتناسب في ذلك الوقت مع مشروع بناء دولة مستقلة جديدة تبدأ من تحت الصفر، مازالت في طور تأهيلها للسكان بدنيا، ومكافحتها للأمراض المستوطنة وسوء التغذية والأمية المنتشرة بشكل شامل، والأمر بقدر ما كان يعرقل بناء الدولة من عدم تقريبا، والمعتمدة في تلك الفترة على تأجير أراض لقواعد أجنبية في غياب أي مصدر آخر للدخل، بقدر ما يشكل خطرا على الأمن الوطني خصوصا بعد القبض على جناح عسكري لأحد الأحزاب كان يتلقى تدريباته العسكرية وتمويله من دولة أخرى، وفي النهاية شعارات هذه الأحزاب هي التي أسقطت العام 1968 وزارة أول رئيس وزراء يملك مشروعا وطنيا استراتيجيا (عبد الحميد البكوش)، وهي التي هيأت المناخ للانقلاب العسكري الذي جاء محمولا على شعاراتها (باعتبار أنها كان لها شعارات وليس برامج أو مشاريع وطنية)، يذكر أن إحدى المشاكل التي تسببت في استقالة أو إقالة البكوش هي حثه للملك على تنظيف الجيش من الضباط ذوي التوجهات السياسية عبر إحالتهم على الخدمة المدنية، وإبعاد المؤسسة العسكرية عن العمل السياسي. المفارق أن هذه الأحزاب العربية هي التي تحولت في بلدانها إلى نظم استبداد لم تقوض العمل الديمقراطي فقط ولكن قوضت دولها اقتصاديا وتنمويا واجتماعيا وأفضت في النهاية إلى خرائب نراها الآن في ما تبقى من هذه الدول، ويذكر أنه في الأيام الأولى لانقلاب سبتمبر 69، تهاطلت على ليبيا وفود من الأحزاب الحاكمة في بعض الدول العربية (قوميون وبعثيون وناصريون) في محاولة لاحتواء التغيير لصالحها، ووفق مجنديها الذين يتبعونها داخل المؤسسة العسكرية في ليبيا، وأفضى هذا التهاطل لأن يحكم ليبيا رجل المخابرات المصري، فتحي الديب، مستشار المجلس العسكري الحاكم الذي كان يفتقد لأي خبرة، وتحت شعار عدم تكرار أخطاء ثورة يوليو في مصر، أسهم في التنكيل بالضباط من أعضاء "مجلس قيادة الثورة" الذين كانوا مصرين على تسليم السلطة بعد مرحلة انتقالية يصاغ فيها دستور جمهوري إلى حكومة مدنية. أؤكد أني أقرأ هذا الوضع في زمنه، وربما لو كنت شابا في تلك الفترة لكان لي رأي مختلف، ولربما كنت ممن سيطالبون بتنحي عبدالحميد البكوش لأن مشروعه كان ضد كل تلك الشعارات الصادحة في ذلك الوقت، وهي شعارات متسقة مع حماسة لحظتها التاريخية ومع غنائية الشريحة الشبابية المتحمسة للوحدة العربية أو الاشتراكية أو القضية الفلسطينية، ولم تكن الديمقراطية إحدى مفردات حماسها. العمل الحزبي أساس الديمقراطيات بالتأكيد لكنه ليس سهلا، وأي تعامل معه بسهولة وشعاراتية سيؤدي إلى عكس ما يهدف إليه تماما، بل أن أعتى الدكتاتوريات بنتها أحزاب وصلت إلى السلطة عن طريق الانتخابات والتعددية الحزبية، ومن هذا المنطلق اعتبر الخطوة التي تمت ضمن مشروع ليبيا الغد ــ بفكرة التأسيس لمنابر سياسية يتم فيها التدريب لخلق كوادر ومقارات للحوار السياسي من الممكن أن تتحول مع النضج إلى أحزاب ــ خطوة مهمة في التأسيس لحياة حزبية، إضافة إلى تأسيس مركز لدراسات الديمقراطية كان الغرض منه في ذلك لوقت أن يكون بديلا لمركز دراسات الكتاب الأخضر، وبغض النظر عن الاختلاف حول بواعث هذه الخطوات غير المتوقعة وقتها فإنها كانت على الطريق الصحيح، خصوصا هي خطوات سبق أن تم تبنيها في دول كانت في طريقها للإصلاح السياسي وفق برنامج متدرج ومدروس. أما ما تطرقت إليه من كون الملكية كانت تؤسس لدولة حديثة واختلفَ معي عمر حول مفهوم الدولة الحديثة التي ربطها بالديمقراطية وحرية الأحزاب، فكنت أعنى دولة المؤسسات والقانون التي تسير على الطريق، وسرعة السير أو بطؤه متعلق بحيوية المجتمع وحركته، وكون دولتين مثل الصين الشعبية وروسيا الاتحادية لا توجد فيهما ديمقراطية أو حياة حزبية حرة لا يعني أنهما ليستا حديثتين. وحقيقة ما ألهمني هذه الرؤية لطبيعة دولة الاستقلال الليبية التي كانت تتشكل بمحاسنها وعيوبها في تلك الفترة هو قراءتي لمذكرات د.علي عتيقة "بين الأمل والإرادة" وهي شهادةٌ مهمة لشخصيةٍ متعلمة ونابهة، ومرتبة لدرجة الاحتفاظ بكل وثائق المرحلة، صيغت بموضوعية لأكبر حد، وكان التركيز على التعليم والخدمات الصحية والتنمية البشرية ووضع الكفاءات العلمية في الواجهة وتنويع مصادر الدخل، وتحفيز القطاع الخاص، تهيء في مجملها المجتمع لمستقبل إصلاحي تأتي به المطالبة بالمشاركة السياسية من قبل الشعب (دافع الضرائب والمتعلم والمساهم في الاقتصاد) وليس بضغوط خارجية أو بهذيان ثوري يحلم بعيدا عما يحصل فوق الأرض. يحيلني هذا إلى المقارنة الغريبة التي ذكرها الككلي بين الملك إدريس ودولته من جانب، والقذافي ونظامه من جانب آخر، وإذا أردنا مقارنة مشروع إدريس بأي مشروع آخر في المنطقة فالأقرب أن يقارن بتجربة الحبيب بورقيبة في تونس فيما يخص تعاملها مع المجتمع وليس طبيعتها الدستورية، فالاهتمام بالتعليم والانفتاح على الثقافات الأخرى وحيوية العمل المدني في اتحاد العمال خصوصا الذي أنتج قيادات وطنية مهمة فترة الملكية، واتحاد الطلاب، الذي نكل به بعد الانقلاب، إضافة إلى مؤشرات أخرى تتعلق بإيقاف المحكمة العليا لمرسوم ملكي غير دستوري، وإقالة وزارة كاملة ومعاقبة المتسببين في قتل طالبين في أحداث يناير، والحكم بالسجن ثلاث سنوات على أعضاء جناح عسكري لحزب تدربوا في دولة أخرى، كل ذلك وغيره يسعفني لأن أصف طبيعة تلك الدولة المختلفة بالتأكيد عن نظام القذافي. يعيد البعض سلاسة الانتقال في تونس لميراث الحبيب بورقيبة الذي يشبه ميراث إدريس، كحاكمين بعد الاستقلال استمدا شرعيتهما من تاريخهما النضالي، واستطاعا بناء دولتيهما ووضعهما على الطريق المفتوح لاحتمالات أفضل، مع لفت النظر للفارق بين الدولتين من حيث طبيعتَي الدستورين الجمهوري والملكي، ومن حيث إرثهما السياسي والثقافي، فتونس دولة فرانفكونية خارجة من حقبة استعمار فرنسي أرسى العديد من القيم الجمهورية، وليبيا خارجة من حقبة حكم فاشي استمرت لعقود.

ثمة مدخل آخر فيما يخص مستقبل الديمقراطية الحزبية يتعلق بما ما يطرح الآن من أفكار قابلة للنقاش عن (ما بعد الديمقراطية وتضاؤل دور الأحزاب التقليدية) وعن بزوغ منظمات المجتمع المدني كقوة بديلة، وعن بيئة جديدة للديمقراطية أنتجتها ثورة المعلومات والتقنية الرقمية، سأتناولها في مقالات قادمة ضمن فكرة (لقد فاتنا عصر الاقتصاد الصناعي ومن الممكن أن نلتحق بعصر اقتصاد المعرفة، ومن هذا المنطلق فاتنا عصر الديمقراطية الحزبية ومن الممكن أن نلتحق بعصر الديمقراطية الرقمية وفاعلية المجتمع المدني فيها، وهذا ليس حرقا للمراحل بقدر ما هو استجابة لآليات عولمية جديدة تشي ببراديم جديد للديمقراطية كنظام حكم مر بمراحل عديدة، وهي آلية تجعل طفلا في أحد عشوائيات مغديشيو مرتبطا بالعالم وثورته الرقمية مثله مثل طفل في منهاتن. وحيث العالم لا يتحول إلى قرية كونية فقط على مستوى المكان لكن الفجوة الزمنية أيضا تتقلص فيه بسبب هذه الثورة الكونية الكبرى.

*عمر أبو القاسم الككلي: "الانحراف عن المسار ومفاقمة العطش" بوابة الوسط 10 مايو 2020