Atwasat

تائه في أومونيا..

عبد السلام الزغيبي الأحد 24 مايو 2020, 05:21 مساء
عبد السلام الزغيبي

نافورة ميدان أومونيا الجديدة ذكرتني بنافورة ميدان أثينا القديمة وبقصة طريفة حدثت مع أحد الليبيين من مدينة بنغازي الذين كانوا يترددون على أثينا في شهور الصيف في السبعينيات.. لم أكن شاهد عيان على الطرفة ولكن رواها لي أحد شهود الواقعة وكان يقيم مع صاحبنا في نفس الهوتيل المشهور في شارع أثيناس وهو أحد الشوارع المتفرعة من ميدان أومونيا الأشهر في وسط أثينا.(هوتيل الجريكو)، وهو مقصد عرب بنغازي،

لوقوعه في وسط المدينة، ولقربه من سوق الخضار واللحمة، ومن ميدان موناستراكي وبلاكا، وهناك ميزة أخرى في الهوتيل وهو المعاملة الخاصة التي يجدها الليبيون من مسؤول الريسبشن وهو يوناني- مصري، إذ يتركهم بمزاجه، أن يولعوا الفرنيلوا، وايطيبوا مكرونة جارية، ويأخذوا راحتهم، ويسكنوا في الغرفة أكثر من اثنين ثلاثة أشخاص، بعكس باقي الزبائن المؤدبين..

وميدان أومونيا توجد بوسطه حديقة كانت تحوي نافورة منذ آواخر القرن التاسع عشر وحتى العام 2000 كما تزينه أشجار النخيل المتوسطية، كما كانت تحيط به مجموعة كاملة من مباني العمارة الكلاسيكية الحديثة شأنه شأن المناطق الشمالية والغربية من أثينا والتي أزيل نصفها تقريبا. وأسفله إحدى محطات قطار أثينا والتي تحمل اسم "محطة أمونيا" التي افتتحت في 1895 ومن بعده أضيف له خط مترو أثينا في العام 2004.

كما أن موقعه يطل على عدة شوارع وميادين رئيسية أخرى في المدينة، بينها شارع يصله بميدان سنتاغما الرئيسي هو الآخر وبين الميدانين توجد منطقة المحال التجارية والأسواق والمطاعم الرئيسية في المدينة.

ملخص الحكاية الطريفة، أن صاحبنا وهو مشهور بالنوادر بين رفاقه أراد أن يبادر ويخرج وحده للتجول في المنطقة القريبة من الهوتيل تاركا الرفاق ليذهب إلى مكان لا يريد أن يطلعوا على سره، المهم أنه خرج، وأصحابه غير راضيين على خروجه وحده لأنهم يعرفون أنه لا يستطيع التصرف بمفرده وقد اختبروا هذا من قبل في كثير من المرات.. لكن مع الحاحه وإصراره على الخروج، سمحوا له بذلك بعد أن وعدهم أنه درس موقع الهوتيل، ويعرف اسم الشارع الذي يقع فيه الهوتيل في وسط أثينا..
خرج "عبد الرحمن" مساء ذاك اليوم من أيام صيف منتصف السبعينيات من القرن الماضي، باتجاه ميدان أومونيا الأشهر في وسط أثينا.. وعند وصوله كانت نافورة ميدان أومونيا مضاءة بكامل ألوانها، وهنا خطرت له فكره يستدل بها عن الشارع الذي يقع فيه الهوتيل.. اختار اللون الأحمر الذي يشير باتجاه شارع أثيناس حيث يقع الهوتيل.. وقام بجولته في الشوارع القريبة، رجع إلى مكانه، الذي أطلق منه.. وصل إلى ميدان أومونيا لكن لسوء حظه كانت أنوار النافورة مطفأة.. هنا وقع ارحيمه في حيص بيص، فكيف يخرج من هذه الورطة وكيف السبيل للوصول للهوتيل بعد أن غاب الدليل الوحيد الذي يستدل به عن المكان.. بقية تلك الليلة ظل صاحبنا يلف حول الميدان يخرج من شارع ويدخل في شارع.. لا يعرف اسم الشارع ولا اسم الهوتيل ولا لغة أجنبية تسعفه في هذه الأوقات الحرجة..

طالت غيبة عبد الرحمن، وانشغل الجميع عليه، وبدأ كل واحد منهم يضع سيناريو لما يمكن أن يكون قد حدث له، منهم من قال إنه ربما تاه في الطريق ولم يعرف الوصول الى الهوتيل وخرج للبحث عنه في الشوارع القريبة دون جدوى.أحد الأصدقاء الخبثاء قال: "ربما خطفته إحدى حسناوات أثينا لأنه بالغ الجمال وكامل الرجولة.."، لكنهم جميعا استبعدوا أن يكون صديقهم قد اعتكف في أحد البارات أو المواخير.. لأن هوايته كانت التفسح والأكل والشرب فقط، لاغير..

ومضت الليلة دون رجوع "عبد الرحمن"، وكان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، والمارة قليلون، والعتمة بدأت تلف المكان، ومن التعب غلبه النوم، فارتمى على العشب الأخضر في الحديقة المحيطة بالنافورة ونام، ليستيقظ على صوت عامل الحديقة العجوز، يوقظه، ويقول له: هذا مكان عملي، وأرجوك أن تبحث لك عن مكان آخر تستريح فيه".. وكانت اجابة " عبد الرحمن" وهو يحاول أن يشرح ويوضح للعجوز بلغة الإشارة طبعا، أنه تائه، وأنه يبحث عن الهوتيل، ويبحث عن طريقة للرجوع إلى أصحابه.

حن قلب العجوز وهو يرى عبد الرحمن يحكي بأسى وتعابير وجهه تقول أنه صادق في كلامه حتى وإن لم يفهم العجوز شيئا مما يقول، فقط كل ما استطاع فهمه كلمة واحدة كان يكررها على الدوام "هوتيل..هوتيل" ، العجوز عامل البلدية، بفطنة أهل البلد، عرف أن صاحبنا يسكن في هوتيل رخيص الثمن وينزل فيه عادة أجانب، وأخذه من يده وأوصله لغاية باب الهوتيل وهناك كان رفاق رحلة السفر في انتظاره عند المدخل، فرحوا شديدا لقدومه وبرجوعه سالما غانما، شكروا الرجل اليوناني العجوز، وطلبوا من "ارحيمه" أن يذهب ليستريح من عناء وتعب الليلة الماضية، وأن يمكث في الهوتيل حتى صباح اليوم التالي، لأنهم كانوا قد خططوا لرحلة بالسفينة إلى ثلاث جزر قريبة من أثينا، احتفالا برجوعه سالما، وقال أكبرهم سنا: "أنا حلفت من يوم وغادي، وين ما تمشي كراعي على كراعك، مش ناقصنا فجايع، خير ما ايقولوا شلتوا الراجل معاكم لليونان، وروحتوا بلاه" اتفقنا يا ارحيمه... وكان رده: "ماشي .. ماشي.. اللي اديروها باهي"...