Atwasat

السيدتان روي

جمعة بوكليب الخميس 21 مايو 2020, 02:32 صباحا
جمعة بوكليب

حين جئت إلى بريطانيا، أواخر عام 1988، كانت الصحف مصنّفة وفقاً لحجمها الورقي. الصحف ذات الحجم الكبير تسمى بالصحف العريضة الصفحات (The Broad Sheets)، والصغيرة الحجم تسمى التابلويد (The Tabloid). تحت القائمة الأولى تدخل صحف الجارديان والتايمز والديلي تلغراف والإندبندنت والفايننشال تايمز. بالإضافة إلى الصحف الأسبوعية مثل الأوبزرفر والصنداي تايمز والصنداي تلغراف والصنداي إندبندنت. وتحت الثانية تدخل صحف الصن والديلي ميل والديلي اكسبرس والديلي ميرور. مضافا إليها صحف الأحد. وجميعها توزع في كل بريطانيا. صحف القائمة الأولى رصينة والثانية شعبية، وتنقصها الرصانة كثيراً. لكن تأثيرها ونفوذها على الرأي العام أعظم وأخطر سياسياً، لانتشارها الواسع.

ونظرا للظروف المالية الصعبة التي تعرضت لها أغلبية الصحف العريضة، لجأت تلك الصحف إلى تقليص الإنفاق بتقليص حجمها الورقي من العريض – الكبير إلى الصغير- تابلويد. وخرجت صحيفة الإندبندنت من التواجد الورقي كلية. في حين أن صحيفتي الديلي تلغراف والفايننشال تايمز حافظتا على شكلهما المعهود، ورفضتا إحداث أي تغييرات.
صحيفة الفايننشال تايمز كانت صفحاتها تتميز بلون مختلف، أقرب ما يكون إلى الوردي، وما زالت. لذلك تُعرف باسم الصفحات الوردية، والتي تعني طبيعتها وتوجهها في التركيز على الشؤون المالية والاقتصادية.

علاقتي بهذا الكم الكبير من الصحف متفاوتة. وأصنّف نفسي من قراء صحيفة الجارديان المثابرين. لكن ذلك لا يعني مقاطعتي لغيرها من الصحف. إذ كنت حريصا على قراءة صحيفتي التايمز، والإندبندنت. واتسمت علاقتي مع صحيفة الديلي تلغراف بالعدائية لشدة فجاجتها في طرحها السياسي اليميني. كما أن علاقتي بالصحف الشعبية – التابلويد لم تكن وثيقة، ولم أكن حريصا على قراءتها، إلا في أحيان قليلة، ولأسباب ودواع ضرورية. الجدير بالذكر، حقاً، كان التغير اللافت الذي تعرضت له علاقتي بصحيفة الفايننشال تايمز.

المثل الذي ينبّه إلى ضرورة تجنب الحكم على كتاب من عنوانه يقدم نصيحة ثمينة. ويبدو أنني تجاهلته. وكنتُ مخطئاً جداً. فالصحيفة وإن كانت حقيقة تحظى بمتابعة قراء من المهتمين والعاملين بالشؤون المالية والاقتصادية والبزنس لا يعني أن موادها وأخبارها وتحليلاتها تقتصر على هذا الجانب. أضف إلى ذلك أن ملحقها الثقافي الأسبوعي متميز جداً، بكتاّبه، وبمتابعته للشأن الثقافي والفني بتنوعه. وأعترف أن المحلق الثقافي الأسبوعي ساعد كثيراً على تغيير حكمي على الصحيفة، وما ترتب عليه من حرص على اقتنائها وقراءتها.

كل يوم سبت، أجلس لأستمتع بقراءة مواد الملحق، وما يحمل بين صفحاته فيه من متابعات ومقالات. وأحرص، بشكل لافت، على متابعة قراءة مقالة لكاتبة روائية وصحفية هندية اسمها «نيلانجانا روي». وكنت مخطئاً أظنها الروائية «ارونداتي روي». ويبدو أن تشابه اللقب جعلني أخلط بين الاثنتين.
وما حدث أخيراً، خلال مرحلة الحجر الصحي، هو أنني انتهزت الفرصة وقررت إعادة قراءة رواية The God of Small Things للروائية ارونداتي، الصادرة عام 1997، وفازت بجائزة البوكر البريطانية لذلك العام، وهي أول رواية تصدر للمؤلفة. بحثت عن الرواية في رفوف مكتبتي، وسرعان ما عثرت عليها، وبدأت قراءتها. وصدفة، تبيّن لي الفخ الذي أوقعت نفسي بين شراكه. واتضح جليّا لي أن ارونداتي ليست نيلانجانا. ولولا أنني لم أقرر العودة إلى قراءة الرواية لما فطنت للأمر.

ما دعاني للحديث عن ذلك، هو أنني، لدى قراءتي للرواية المذكورة، لفت انتباهي حوار يتعلق بمعنى التاريخ جاء على لسان إحدى الشخصيات، مما جعلني أتوقف عن القراءة، وأستغرق في محاولة استيعاب معانيه. وأخيراً، قررت ترجمته، ونشره، على أمل أن يحفّز البعض، على الأقل، للتفكير كما فعل بي. وهذا نصّه:
«التاريخُ مثل بيت قديم في ليل، وكل مصابيحه مضاءة، وبداخله الأسلاف يهمسون... وعلينا الدخول والاستماع إلى ما يقولونه، والنظر إلى الكتب، والصور، واستنشاق الروائح.

لكننا لا نستطيع دخول البيت لأن أبوابه موصدة. وحينما ننظر من خلال النوافذ لا نرى إلا ظلالاً. وكلما نحاول الإنصات لا نسمع إلا همساً، لكننا لا نفهم الهمس، لأن أذهاننا تعرضت لغزو الحرب. حرب ربحناها وخسرناها. وهي من أسوأ الأنواع، لأنها حرب احتلت أحلامنا وأعادت احتلامها. حرب جعلتنا نعجب بغُزاتنا ونحتقر أنفسنا. نحن أسرى حرب. أحلامنا تعرضت للتدخل، وننتمي إلى لا مكان. أبحرنا في بحر متلاطم الأمواج، وربما لن يُسمح لنا مطلقاً بالرسو على شاطئ. بهجتنا ليس فيها كفاية من السعادة. أحلامنا ليست كبيرة كفاية. وحيواتنا لا تهم، لأنها ليست مهمة كفاية».