Atwasat

تفاقم العطش يجعلنا نحفر تحت أقدامنا

سالم العوكلي الثلاثاء 19 مايو 2020, 02:35 صباحا
سالم العوكلي

في مقالته (الانحراف عن المسار ومفاقمة العطش" بوابة الوسط 10 مايو 2020 ، يبدي الزميل عمر الككلي ملاحظاته حول ما ورد في مقالتي السابقة "انحراف المسار لا يعني الضياع"، ويحدد أرضيتنا المشتركة في "تعطشنا للإصلاح والدسترة والقوانين، والديمقراطية كمطالب مبدئية". وهي أرضية مشتركة للحالمين بالانتماء للعالم الجديد وما حققه من إنجاز في الحريات والمشاركة والمسؤولية. بمعنى أن هذا هو الحلم الذي يجمعنا وقد نختلف في تحليل الآليات المفضية إليه أو تقويم العقبات التي تقف دونه، ويتذكر عمر جيدا أن هذا الحلم كان رفيقنا منذ التقينا وأننا ورثناه عن سابقين دفعوا ثمنه مثلما دفع عمر سنين من عمره في السجن دون أن يتخلى عنه.

هذا جميل في ظروف تجعل الأحلام ممكنة، بمعنى أن ثمة دولة قائمة تعاني من فقدان هذه القيم، غير أن في حالات الأزمة التي تصل إلى حد أن تكون أزمة وجودية، أو أمام مخاوف كبرى من تلاشي الكيان الذي نحلم به، يصبح التفكير مختلفا في قلب هذه الأزمة وتصبح مفاهيم الماء والسراب مختلفة جدا.

الأزمة في ليبيا واقع سأشبهه بالحريق الذي يتسع مداه ويشتد لهيبه مدعوما بسنين من الجفاف ورياح متقلبة تزيد من أواره، وسأفترض أن هذا الحريق في غابة، وحينها سيصبح تفكير من يهددهم أو يعيشون في محيطة أو يتفاعلون معه مختلفا عن تفكيرهم لو كانوا في ظروف مختلفة، وربما سيفكرون بطريقة أخرى في مشاكل أخرى تخص التصحر أو الجفاف أو سوء استخدام البيئة. مع الحريق سيصبح تفكير أكثر المتعاملين معه عقلانية غريبة لو طرحت في ظروف مختلفة. فضمن أفكار مواجهة هذا الحريق أو تقليل أضراره سيفكرون مثلا في مقاومة الحريق بالحريق، بمعنى حرق ألاف الأشجار في محيطة لمحاصرته ووضع حدود لانتشاره، أو اقتلاع حزام من ألاف الأشجار، وهذه إجراءات تحوطية لا تغني عن مواجهته مباشرة بمواد الإطفاء وبكل الإمكانات، لكن مواجهة الحريق بالحريق تقنية مهمة تستخدم الآن في حرائق الغابات ولو أجريت في ظروف عادية لاعتبرت نوعا من الجنون. وهذا المثال لا يعكس الحالة برمتها، لكن أردت من ورائه أن أوضح أن التفكير وقت الأزمة الحادة، وفي حالتنا: انقسام البلد والمجتمع، الحرب، قفل موانئ النفط، التدخلات الخارجية المباشرة.. إلخ، أمور تشبه الحريق الذي يجتاح البلاد، ومن ينجو اليوم قد لا ينجو غدا، ومن لا يموت حرقا قد يموت اختناقا، ومن لا يموت قد ينزح إلى مكان بعيد.

حين كنت في قرية في قلب المنطقة التي تسيطر عليها الجماعات المتطرفة (التي كانت تُنعت في قنوات العاصمة بالثوار)، من شرق درنة إلى منطقة رأس الهلال، وأرى الخطف يوميا والاغتيالات والرؤوس التي تتدحرج في ميدان الجامع العتيق أو التي تلف بالقصدير وتوضع في ساحة الصحابة، وكنت يوميا انحني تحت سيارتي لأتأكد من عدم وجود لاصق متفجر تحتها، وأحدق طوال الوقت في المرآة خوفا من سيارة تتبعني، وحين كنت أتوقع يوميا أن لا يعود أبنائي كلما ذهبوا إلى تلقي تعليمهم، وأضطر لتغيير هوياتهم عندما أصبح القتل والخطف على الهوية، في وسط هذه الظروف التي عشتها سنوات كنت أتحدث مع صديق مثقف خارج ليبيا، كانت وقتها معركة الكرامة في بدايتها وتحدث عن خوفه من أن تتحول إلى مشروع حكم عسكري، وفي صدد الحديث تطرق لحرية التعبير التي دفع الناس الثمن من أجل الحصول عليها فقلت له وأنا في قلب هذا الرعب: أنا الآن أفكر في حرية الشهيق والزفير. لقد نسيت حرية التعبير. لم تكن هذه الجملة تخليا عن الحلم والأرضية المشتركة، ولو لم أكن في قلب الحريق لما تفوهت بها، لكن كنت فعلا أرى الكثير من أحلامي تبتعد كالسراب حين أصبح الحفاظ على رأسي فوق كتفي حلما في حد ذاته.

يسعدني دائما النقاش مع الصديق عمر الككلي الذي استفدت منه كثيرا، وتسعدني نقاشاتنا في هذا المنبر التي تكررت أكثر من مرة، وكنت أحيانا أعدل أفكاري وفق نقده لها وملاحظاته الحصيفة، وأحيانا أخرى أزداد تشبثا بفكرتي رغم محاولته تقويضها، وفي الحالتين كنت أنا الرابح، فلا يمكن لمعرفة أن تتسع وتنتعش إلا بمثل هذا الحوار وهذه القدرة لدى الككلي على إضاءة زوايا أحيانا تكون غير مرئية. سأحاول الدخول مع المقالة في حوار فيما يخص وجهات النظر أو الآراء القابلة للجدل حولها، وأنأى عن مناقشة المعلومات الواردة فيها، لأن مصادر المعلومات مشكوك فيها، وهي المصادر نفسها التي اعتبرت يوما أن من يذبحوننا هنا هم الثوار المدافعون عن أهداف ثورة فبراير، ولأن الحصول على معلومة دقيقة وأنت في قلب الحدث يبدو صعبا، ما بالك حين تكون بعيدا عنه. وقبل ذلك أحب أن أبدي ملاحظة صغيرة تتعلق بالكتابة في الأعمدة الصحفية، حيث تفتح فيها ضغوط المساحة المتاحة ثغرات كثيرة، تفضي أحيانا إلى نقص في الإحاطة بالفكرة المطروحة عبر إشارة سريعة، ومن ثم إلى نوع من سوء الفهم، وكنت في المقالة السابقة كتبت عن تلك الظروف التي أحاطت بمنع العمل الحزبي في سنوات التأسيس الأولى للدولة، ويجب قراءة هذا المنع في ظروفه وحين كان الضباب يحيط بمصير الدولة وليس الحكم عليه بعد سنوات، وبعد أن انقشع الضباب، وأصبحت الرؤية واضحة لتلك الحقبة، بينما الضباب يغمر هذه الحقبة التي نعيشها الآن ونتحدث عنها بالحدوس غالبا، أو بالاستكانة لمصادر أخبار لها غايات محددة في نقل أو تركيب أو فبركة الأخبار بما يخدم غاياتها، غير أني اضطررت لحذف التوضيح اللاحق مع غيره من الاستطرادات كي أعيد حجم مقالتي لمساحة النشر المتاحة. وهذا ما جعل إشارتي غائمة، وأتحمل وحدي هذا القصور، وملاحظات الككلي المستفزة لبذل الجهد قبل إلقاء الأحكام، سأتناولها في مقالات لاحقة لأهميتها.

أفهم جيدا حلم صديقي عمر الككلي الذي قضى من أجله أجمل سنوات عمره في السجن، والذي تمحورت حوله كل كتاباته الأدبية والنقدية، والذي عاش ومازال يعيش على الكفاف في سبيله، والأحلام ممكنة دائما، وهي إستراتيجية الروح الإنسانية المؤمنة بفكرة التقدم وحتمية التغيير، الأحلام ممكنة جدا، لكن الطريق إليها ليس مفروشا، وما ننجزه في حقل اللغة والمفاهيم والنظريات المتسقة قد لا يسعفه الواقع، وربما ما يجعل عطشي متفاقما كما ذكر أخي عمر هو كوني أكتب من قلب الحريق عن أشياء ممكنة، وعن رغبتي في الحصول على فراش مستقر يمكنني أن أحلم فيه. وتلك البقع السوداء التي تظهر بين السطور أو ما يسميها عمر أحيانا "الثقوب السوداء" ما هي إلا سخام الحريق على أصابعي.