Atwasat

"شعير وإلا فلوس"؟

صالح الحاراتي الإثنين 18 مايو 2020, 07:31 صباحا
صالح الحاراتي

تساؤل متكرر وجدل يتردد فى الأيام الماضية؛ ولا أظنه مسلك عفوى وإنما هو عنوان عريض لنسق فكري يعبرعن متاهة ما انفك يدور في فلكها دعاة العودة للسلف الذين كعادتهم يلجأون إلى القفز من عربة الزمن هروبا إلى الماضي البدائي بحثا عن توازن نفسي وعاطفي وهمي مؤقت لعلهم يجدون فيه ما يرضي مخيالهم ونفوسهم، فقرروا أن يبحثوا عن ضالتهم فى ذكريات عفى عنها الزمن كالتاجر المفلس الذى يفتش فى دفاتره القديمة.

"لا يمكن أن تمضي فى طريقك وأنت تنظر إلى الوراء"… رغم هذه البديهية نجد الكثير من البشر في مجتمعنا لا زالوا ينحون ذلك المسلك والنظر إلى الوراء والدعوة للعودة الورائية مسألة رائجة لدينا مع تفاوت بسيط يبدو عند النظر إلى الفارق الزمني الذي يريد كل طرف العودة إليه وإلى البعض الضئيل من التمايز الفكري بين طيف أولئك المتسلفنين.

هناك اتفاق بين كل الورائيين على الإصرار بعناد على إضاعة واستنفاد المزيد من الوقت والجهد في جدل لا ينتهي حول اختلافات فقهية ما هي إﻻ اجتهادات بشرية يحكمها معيار الزمن الذى اجترحت فيه والبيئة التي نشأت فيها، وينصرف نظرهم عن الاجتهاد فيما يخص حاضرنا ومستقبلنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي - باستثناء محاولات خجولة - وكأن أولئك ليس ثمة قضايا لديهم سوى تلك التي تربطهم بالماضي؛ وكأننا نملك ترف الجدل السفسطائي.

أولئك الأدعياء جعلونا مجتمعا يتآكل من الداخل ويتلهى بخصومات عفى عليها الزمن، وتناولها الأولون منذ قرون وﻻ حل قطعيا لها.

متى سيكتشف أولئك أن العالم أكبر من حلم ضيق يصنعه إنسان متوجس منهاجه التدليس والكذب وادعاء امتلاك الحقيقة وطموح واهم بأن يعيد عجلة الزمن إلى الوراء.

السؤال، وإن جاء متأخرا:
يا ترى ماذا حققنا من كل هذا التوهان..؟ ألم يكن جديراً بنا اكتشاف أن القضايا الحقيقية التى ليس لها سوى عنوان واحد وهو البحث في (مستقبل أجيالنا) والذي قلما سأل عنه أولئك الورائيون المثبطون!.

هناك من يقول أن أغلب الدارسين يذهبون إلى الاعتقاد بتزامن ظهور هذه التيارات بمرور المجتمع بما يسمّى بأزمة تخلف حضاري عميقة تشكّكه في قدراته على مواجهة تحدّيات الواقع الموضوعي أي تحدّيات الحداثة أو تحدّيات العصر فيهرب إلى ما يظنه أمجاد الماضي.
هذه الحالة كثيرا ما تؤدي إلى تعطّل حركة الابتكار والإبداع في المجتمع.. نظرا لانهماك تلك العقول فى اجترار الماضي وتبرير إخفاقات الحاضر المعاش بـ "الابتلاء" وبالتغني بأمجاد الماضي التليد.. بينما الحقيقة بظني أنّها حالة مرضيّة مصدرها العجز المعرفي والخوف من المستقبل والرفض للحاضر ولذا يكون الهروب للماضي طلبا للنجاة وشهادة براءة للذات المهزومة.

إن عدم الاعتراف بما نحن فيه من تخلف يعني أننا نعيش حالة الإنكار، وهو حالة نفسية هروبية تعبر عن العجز، كأحد ردود الفعل البشرية التي تظهر كرد فعل فردي على مشكلة شخصية أو حتى رد فعل جماعي في حالة وقوع مجتمع بالكامل تحت الضغط والقهر والتضليل الإعلامي لسنوات طويلة.

وغالبا ما يتساوق ويتزامن ذلك الإنكار باستخدام "التبرير" كسلاح دفاعي آخر يغطي به قصوره وعجزه عن مواجهة واقعه، وما أكثر أسلحة النفس الدفاعية المضللة.

الورائيون قد يرفعون شعار قتال الظَلمة أو الخروج عليهم ولكن عند فحص حقيقة أفكارهم لن نجدها سوى جماعات أرادت استبدال مستبد بآخر؛ مستبد يحكم باسم إقامة شرع الله، وكل ما يستجد هو تغيير توصيف الخصم.. باأمس كان اﻻستبداد السياسى المشوه ينعت الخصم بـ "الخائن" ينقلب الأمر وتتحول التسمية إلى معارض كافر أمام استبداد ولي الأمر!!

أن التأويل السائد للنص المُنَزَّل عندنا هو تأويل عُنفي، لأنه يستند في قراءته إلى قراءة السلف دونَ استحضار المتغير التاريخي (تغير الزمان والمكان).

فإذا كان أحد قد قرأه اليوم قراءة خاصة، فينبغي أن نحترمها ونستفيد منها، ﻷن إنسان اليوم مؤهل لقراءة ذلك النص قراءة أكثر عمقا بحكم تطور العلوم…

لقد علمتنا مختلف تجارب الحياة ضرورة الاحتياط من أهل الوصاية على الدين الذين يسيطر عليهم الفكر الأحادي والهوية المنغلقة التي تكره الحريات الفردية ولا تنتج سوى الحروب والكوارث وتحض على الاقتتال بين البشر باسم الدين…

المؤسف أن نقرأ بأن ما ساد من فهوم ماضوية منغلقة في السنين الأخيرة يؤكد أن مفهوم الولاء للوطن بدأ يخفت في بلادنا لصالح الولاء لسلطة فقهاء من خارج الوطن حتى يكاد أن يقضي على مفهوم الوطن.