Atwasat

لقطات كورونية (8)

جمعة بوكليب الخميس 14 مايو 2020, 11:38 صباحا
جمعة بوكليب

1

خلال الأيام القليلة الماضية، قرأت كتاباً صغير الحجم، عظيم المحتوى، يتناول ماسأة الجيل الذي وُلد في أواخر فترة الحرب الأهلية في أيرلندا الشمالية، أو بعد التوقيع على اتفاق السلام في العام 1998. الكتاب بعنوان (Lost, Found, Rememered) صدر هذه السنة عن دار نشر «فيبر آند فيبر».

مؤلفته صحفية شابة في منتصف العشرينات من العمر، من مدينة بلفاست، اسمها ليرا ماكي(Lyra Mackee)، أُغتيلت في شهر أبريل من العام الماضي، في مدينة ديري، بينما كانت تقوم بتغطية صحفية لأحداث شغب.

الكتاب، كما يبدو من العنوان، يتعرض لقضية انتحار الشباب في تلك البقعة المنسية من العالم، كما يطرح كذلك، وبجرأة، الأزمة التي يتعرض لها أبناء جيل وُلدوا في زمن مثقل بتشوهات خلفتها حرب أهلية ضارية استمرت ثلاثين عاماً. ورغم أن أفراد ذلك الجيل لم يعايشوا الحرب، ولم يكونوا شهود عيان عليها، لأنهم وُلدوا وكبروا تحت جناحي اتفاق السلام، وأطلق عليهم اسم أطفال السلام، إلا أنهم لم يسلموا من تشوهات تلك الحرب. أضف إلى ذلك أن السلام الموعود لم يكن في حقيقة الأمر إلا وهماً. فالجدران التي تفصل بين طائفتي البروتستانت والكاثوليك مازالت قائمة، وازدادت علواً وعدداً. والمقاتلون من الطرفين، الذين توقفوا عن قتال بعضهم عادوا، بعد اتفاق السلام، لممارسة القتل والترويع والابتزاز ضد أبناء طائفتهم. والازدهار الاقتصادي الموعود لم يتحقق، وارتفعت نسبة البطالة، والأمراض النفسية المزمنة.
الانتحار بين أفراد الجيل الجديد أضحى ظاهرة خطيرة، ومنتشرة، حتى أن أعداد المنتحرين خلال العشرين سنة الأخيرة تجاوزت أعداد من قتلوا خلال ثلاثين سنة من الحرب، في الوقت الذي ظل السياسيون من الطائفتين يمارسون كذبهم وتدجيلهم، في صراعات لا علاقة بالأزمات الحياتية اليومية التي تخنق المواطنين وتحيل حيواتهم كوابيس متواصلة.

تقول الكاتبة في أحد فصول الكتاب إنها وأبناء جيلها وإن لم يعايشوا رعب فترة الحرب، لكنهم مازالوا يعيشونها في عيون الجيل السابق.

والكتاب إدانة أخرى شديدة لحرب التهمت حياة الجيل الذي عاصرها والجيل الذي جاء بعده. وهي في كثير من مناحيها تتشابه والحرب الدائرة في ليبيا منذ تسع سنوات، خاصة حين تتعرض الكاتبة إلى اغتناء كبار قادة الميليشيات من الطرفين من الحرب، من خلال فرض الإتاوات، والترهيب.

الحرب الأهلية، في أيرلندا الشمالية، كما تؤكد الكاتبة، لم تنتهِ بالتوقيع على اتفاق سلام بين الأطراف المتنازعة العام 1998، لكنها انتقلت إلى ميدان آخر: التاريخ. «من من الطرفين أولى بأحقية سرده حصرياً؟».

هذا السؤال تحديداً، جعلني أفكر في حالتنا الليبية، والحرب الطاحنة في ضواحي طرابلس منذ أكثر من عام، وتزداد ضراوة ووحشية كل يوم، بهدف الاستحواذ على السلطة مهما كانت الوسيلة، ومهما ارتفع عدد الضحايا، واتسع حجم الدمار والخراب.

حين تنتهي الحرب، عندها سيحين الوقت لبدء معركة من يملك حق سرد التاريخ. وأعتقد أن القوى الوطنية الديمقراطية المؤمنة بالدولة المدنية وبحكم القانون والمساواة، التي حرمت من هذا الحق، منذ الاستقلال حتى الآن، لن تتاح لها الفرصة لكتابته، أو حتى للمشاركة، ولو من بعيد.

2

«رامون ليس اسمي» قال رامون ميركادير بطل الفيلم الإسباني «المختارThe Chosen -»، في أحد المشاهد يصور عملاء مخابرات جوزيف ستالين، في أحد شوارع مدينة نيو مكسيكو، عاصمة المكسيك، وهم يقومون بخطف صديقه ورفيقه الكابتن الذي حارب معه، وتحت قيادته في الحرب الأهلية الاسبانية. كان الكابتن يصيح به مستنجداً رامون رامون، لكنه مضى ولم يلتفت للخلف، قائلاً بخفوت «رامون ليس اسمي»، وواصل سيره، تاركاً الكابتن رفيق نضاله لمواجهة قدره. رامون ميركادير كان اسمه، لكن المخابرات السوفياتية اختارت له اسماً آخر وشخصية أخرى، ودربته وأرسلت به إلى المكسيك ليقتل ليون تروتسكي، قائد الأممية الرابعة، بضربة قاتلة بفأس في رأسه. وقتله كما اقتضت الخطة، وقضى عشرين عاماً في السجن، بالاسم واللقب والشخصية التي اختارتها له المخابرات الستالينية. لكن رامون ميركاديركان اسمه الحقيقي، وإسبانيا التي قاتل في سبيل أن يخلصها من الفاشية، كانت بلده، وليس بلجيكا كما ادعى كذباً. وبعد السجن، ذهب مباشرة إلى موسكو، وقُلد أرفع وسام.

ليون تروتسكي، وإن مات في المكسيك بضربة فأس في رأسه، مازال حيّاً خالداً، ورامون ميركادير، قاتله، مات في هافانا بكوبا جسدياً، ونسياناً.

«لكن هذا ليس هو الفرق الوحيد بين الرجلين، ولا الأخير، حتى وإن ظهرا معاً في قصة شريط سينيمائي». كان هذا تعليقي الوحيد، قلته بما يشبه الهمس لنفسي، مباشرة، بعد أن انتهيت من مشاهدة الشريط على شاشة تلفاز، ذات نهار، في حجرة بنافذتين: واحدة مفتوحة، وتطل بود على زهو ربيع مسترخي في حديقتي الخلفية، وبحذرعلى بداية نهار آخر في الحجر. وأخرى مغلقة، لتزيد في غربتي، في وريستر بارك، جنوب غرب لندن، حيث اخترت أن أحجر جسدي منذ أسابيع طويلة بين الجدران خشية الإصابة بفيروس كورونا، وأفلتُ طير قلبي من قفصه ليطير، وليحط بأمان على شرفة شقتنا في الظهرة، حيث تأرق أمي مسجاة على فراش الكهولة محاطة بأحفادها، وحيث آلاف الأمهات يحضن أطفالهن، ويرتعدن رعباً من تهديد هدير قصف صواريخ وقنابل تتساقط في ليل طرابلس، في كل مكان، ومن دون تمييز، محملة بالرعب والموت والدمار.