Atwasat

خيانة الوصايا

سالم العوكلي الثلاثاء 12 مايو 2020, 11:13 صباحا
سالم العوكلي


"لن نعود للقيود"
كتب الفتى وصيته على الجدار ومضى صوب الشفق.
من شرفة السماء رأى الحدائق تزهر في كل مكان
وأسرابا من طائرات الورق
تحط على راحات الأطفال قرب الشاطيء القمحي
أيها الساسة الهرمون
لا تخونوا وصية الشهيد
لا تجعلوا من الحلم الفتي كابوساً جديدْ

في كلمة السيد عبدالرحمن شلقم العام 2011 بمجلس الأمن، قال مخاطبا القذافي: أرجوك يا معمر لا تُقسِّم ليبيا التي وحّدَها الملك. تلك الكلمة التي أسهمت في صدور قرار حظر الطيران على القذافي، ومن ثم ضرب رتله الكافي لاحتلال إفريقيا الذي كان على مشارف عاصمة الثورة بنغازي، ولولا صدور هذا القرار لوئِدت ثورة فبراير في مهدها، ولكان معظم الذين يخطبون الآن علينا باسم الثورة، وينعتون القذافي بالطاغية، هم أو معظمهم من يقرأ برقيات التأييد ومواثيق المبايعة من جديد، ومثلما فعلنا خلال 4 عقود.

قال شلقم تلك العبارة بحرقة: أرجوك يا معمر لا تقسم ليبيا التي وحدها الملك. ونقول في هذه الفترة العصيبة للذين يتلاعبون بالكيان الليبي ويؤججون مشاعر الكراهية بين أجزاء ليبيا: لا تقسموا ليبيا التي وحدها الملك، حتى جاء انقلاب الـ 69 ليزرع ألغام الفتنة تحت الأرض بين مكونات ليبيا، ثم جاء انقلاب مجموعات الإسلام السياسي؛ ليفتحوا باب التقسيم على مصراعيه بعد انقلابهم المسلح على الشرعية الجديدة والمسار الديمقراطي واحتلالهم للعاصمة والمقرات الحيوية فيها وتهجيرهم لمئات الألوف من المواطنين. ومنذ إعلان معركة الشروق المتفرعة عن عملية فجر ليبيا وإرسال الأرتال التابعة لجماعة الإسلام السياسي لغزو الهلال النفطي والشرق الليبي، بدأت الموجة الأولى للحرب الأهلية وتغذية الكراهية والضغائن بين أطراف ليبيا، وما حصل ويحصل حتى الآن ما هو إلا تداعيات تلك العملية القذرة التي دقت الإسفين في نعش الوحدة الوطنية وفجرت ألغام النظام السابق في كل مكان.

لم تكن عملية عسكرية فقط حُشدت لها الجماعات الدينية وأيقظت نوازع أمراء الحرب في كل ليبيا فقط، لكنها كانت العملية التكتيكية التي أوقفت المسار السياسي في ليبيا حين خسر هذا التيار انتخابات مجلس النواب وخسر أن يكون مقره تحت تحكم ميليشياته، ومنذ حرب فجر ليبيا بدأ الانقسام الجهوي الفعلي في ليبيا عبر تقسيم مؤسساتها السيادية ومجالسها التشريعية وحكوماتها، ومنذها توقفت الانتخابات تماما حتى هذه اللحظة.

مبادئ الإسلام السياسي الحديث الذي بدأ مع تنظيم جماعة الأخوان ــ حين انزاحوا من مهمة الدعوة إلى السياسة والتفكير في إعادة نظام الخلافة ــ تنطلق من أسس ثابتة عبر عنها معظم مرشديهم وأدبياتهم السرية والعلنية، وهي من جانب، مواجهة النزوع القومي الذي يهدد مشروعهم، والعمل على تقويض الدولة القطرية من جانب آخر، باعتبارهما عقبتين أمام حلم عودة الخلافة الإسلامية، وكانت سياسة التمكين التي مارسوها بعد الربيع العربي هي الإستراتيجية الأساسية لخدمة هذا المشروع، الذي لا يمكن أن يبني إلا فوق خرائب الدولة الوطنية بعد أن انحسر المد القومي في المنطقة.

وللأسف هذا النزوع الأحمق تجاه استعادة الماضي الذي لا يمكن تكراراه أسهم بشكل كبير في إجهاض أهداف الربيع العربي في الحرية والديمقراطية والدولة المدنية، وعاد بالمؤسسات العسكرية إلى واجهة المشهد السياسي من جديد، وسط ترحيب شعبي، لأن الرأي العام اقتنع أن لا قوة تستطيع مواجهة هذا النزوع تجاه تقويض الدولة الوطنية سوى الجيوش أمام تنظيم يملك المال والدعم الدولي والإقليمي والأذرع المسلحة المطيعة، فجماعة الأخوان يمثلون العقل المدبر وكل التنظيمات الإرهابية تمثل أذرع هذا العقل المنفذة.

وما حدث ويحدث في ليبيا تقف وراءه هذه الجماعة منذ أن استولت على المؤتمر الوطني وحكومة الكيب ووضعت البنية التحتية لهذه الحروب ولهذه الانقسامات، ومنذ تلك الفترة المبكرة كانت الطبخة تطبخ على نار هادئة في أنقرة حتى وصلت الآن إلى التدخل العسكري المباشر لأن حلم هذه الجماعة الذي تقوض في باقي مناطق الربيع عبر التصفية أو الاحتواء لم يعد يسيطر إلا على عاصمة واحدة هي الملاذ الأخير.

لقد سبق ثورة فبراير، أهم لحظات ليبيا التاريخية، نضال طويل من أجل الوصول إلى ليبيا الحلم، دفعنا عبره التضحيات الكثيرة، حتى وصلنا تلك اللحظة المفصلية التي هتف فيها الشباب الثائر في بنغازي عاصمة الثورة وفي كل المدن الثائرة: (ليبيا واحدة ديمقراطية) ولم تكن هذه العبارة مجرد كلمات تكتيكية أو كذبا أو نفاقاً، لكنها حقيقة، والكثيرون ممن هتفوا بها دفعوا أرواحهم ثمنا في هذه الثورة، وبعض الذين دفعوا أرواحهم في الجبهات كان مكتوبا على بنادقهم وعرباتهم: ليبيا قبيلة واحدة.

كانت هذه وصية من ضحوا بأرواحهم في زمن لم تكن فيه غنائم ولا صراع على السلطة، لذلك فالتراجع عن (ليبيا دولة واحدة ديمقراطية) تراجع عن عهد أخلاقي موقع بدم الشهداء كتبناه في أشد الظروف صعوبة.

فعلينا أن لا نخلط الأمور، وأن لا نتخذ شعارات تدغدغ وجدان الكثيرين ذريعة لتحقيق أهداف عصبوية عنصرية تؤدي إلى انقسام الوطن أو تقسيمه لدويلات لا نعرف عددها حتى الآن. كلمات مثل التهميش أو المركزية أو صراع البداوة والتحضر، أو غيرها من المفردات المتفجرة التي تقال ببراءة أو بغير براءة ، تؤدي إلى حشد الشباب المتحمس وبث الكراهية ونزوع الانفصال، لا تختلف عن تلك المفردات التي استخدمتها مجموعات الإسلام السياسي بأحزابها التي تدعي الاعتدال أو بأجنحته المتطرفة لحشد الشباب ومحاربة أبناء جلدتهم حين قسمت الليبيين إلى أزلام وثوار أو مرتدين وطواغيت.. إلخ، ولا تختلف عن كل المفردات التي استخدمها النظام السابق من أجل إقصاء كل مخالف لمشروعه مثل الرجعية والعمالة، والمرتدين أيضا. لا فارق لأن العصبية الدينية لا تختلف عن العصبية الجهوية أو القبلية أو أية عصبية تنطلق من عقدة الاضطهاد أو من التعالي العرقي.