Atwasat

حقبة منسية باتت تفرض نفسها

رافد علي الأحد 10 مايو 2020, 10:34 صباحا
رافد علي

برزت في القرن الرابع الهجري أدبيات فلسفية تتمحور حول الإنسان وقضاياه الحياتية، وقد برز في هذه الفترة عدة كُتاب بما وثق الاعتقاد بأن هذا الجهد الأدبي للعرب يمثل نزعة فكرية خاصة جداً رغم أنها حقبة عاشت لفترة وجيزة في تاريخنا الإسلامي، وقد أهملتها كتب التراث بشكل ملحوظ بعد انغماس أمتنا في عصور الانحطاط الذي لازلنا نعيشه ونجر توابعه في سقوطنا الحضاري الراهن.

هذه النزعة الفكرية التي اتخذت من الإنسان مركزاً لاهتماماتها بكونه أساس المعرفة تعارف المهتمون على تسميتها أكاديمياً بنزعة الأنسنة. والتسمية العربية جاءت وليدة التماشي مع النزعة الإنسانية التي حدثت بالفكر الأوربي في القرن السادس عشر؛ وذلك من خلال المقاربات التي أقامها الطالب العربي الموفد إلى الغرب للتحصيل العلمي ويأتي على رأسهم المفكر الراحل محمد أركون؛ الذي أقام أُطروحة الدكتوراه حول الأنسنة عند العرب في ستينيات القرن الماضي بباريس متنازعاً مع نخبة الاستشراق بالسربون الذين ورثوا الجزم بأن العالم الإسلامي لم يعرف نزعة الأنسنة. ويرجع لأركون الفضل بذلك في تقديم مصطلح الأنسنة للعربية بعد ترجمة كتابه "نزعة الأنسنة في الفكر العربي. جيل مسكويه والتوحيدي"

من خصائص الأنسنة كفلسفة هو رفض حال التقوقع حول الذات والاعتراف بالآخر ضمن نهج تسامحي باعتبار أن الأخلاق أضحت نمط حياة تسعى للرقي من خلال الأدب في أعلى مراتبه بما ينمي الحس المِذواق، فالأنسنة تنطلق من الإنسان وإلى الإنسان من خلال جعله بؤرة الاهتمام في دنياه عبر خطاب يتسامى به بعيداً عن خطاب يكرس لله فقط، وكأن العبد ليس محط سؤال دنيوي، وهو "الخليفة" ليقيم الدنيا و يعمر الأرض، بما يخالف الخطاب الديني الكلاسيكي المتشدد في الإسلام والذي يحّقر الدنيا باعتبارها من السُفليات، متجاهلا فكرة أن الدنيا سميت دنيا لانها أسفل الجنة. فالأنسنة ترسخ العقل في ممارسة حياتية راقية لا تهتم بالاختلافات، وتحتقر الصراعات المذهبية وكل منهجيات التعصب وأنماطه.

نيتشه عندما أعلن "موت الله " لم يفهمه العامة في أوطاننا بالمعنى العميق لكلماته، فقد اتخذ البشر سطحية العبارات باعتبارها شركاً في صيحة مجنونة لسبب بسيط وهو أن الأنسنة كنزعة كانت غائبة في أذهاننا.

لقد صاح نيتشه صيحته تلك كونه كان شاهداً على العنفوان الحضاري بالقرن التاسع عشر أوربياً وهو في حالة اندهاش من أن يحوز الإنسان الطليعة في رسم ملامح يومه ومستقبله في حياة لم يُستغنَ عنها لصالح أحد في الكنيسة أو في لاهوتيات الرب وضمن عقد إدعان مزور وجائر. التوحيدي، أحد أبرز كُتاب الأنسنة الإسلامية لم يعلن "موت الله" بل ازدانت الأنسنة في كتابه "شواهد إلالهية" إذ يستكشف فيه ذلك التوتر التثقيفي للعلاقة بين الإنسان والله في صرامة فكرية وبتماسك منطقي بما جعل التوحيدي يكون نزّاعا للأنسنة بمضمون غزير يتجاوز السطح مع غيره من كُتاب عصره الكلاسيكي، كابن مسكويه الذي يبقى كتاب الهوامل والشوامل شاهد عيان على الحوارية بينهما حول الأخلاق وفلسفتها باعتبارهما من أبناء تلك الحقبة المنسية في تاريخنا.

ظهرت نزعة الأنسنة الإسلامية في حقبة الأمراء البويهيين الذين حذفوا عملياً منصب الخليفة، حينما قام أحمد معز الدولة (932- 967 م) بالاستيلاء على بغداد سنة 945 م وأعلن نفسه حامي الخلافة*، وعاش الإسلام رغم ذلك بلا أي منغصات أو حالة تقهقر، بل استمر بروح متفتحة على الآخر مُعملاً الإنسان المتفتح والمترسخ بالعقل فتجاوز البقاء سجيناً وسط فراغ عقائدي أو تقهقر حضاري مزعوم لأن "الخليفة" لم يكن مُفعلاً. دولة البويهيين كانت شيعية لكنها لم تكن في حالة عداء مع أهل السنة، ولعل فكرة تحيد المذهبية- شيعي إمام سني"، وتحيد فكر إمام آخر كانت هي اللحظة المناسبة التي سمحت للعقل أن يزدهر ويتعالى في تجليات أولدت النزعة الإنسانية في ظل الإسلام. أركون يميل جداً لهذه الفكرة حسب ما يحلل الدكتور كيحل مصطفي.**

إلى جانب إضعاف هيبة الخلافة يمكن اعتبار أن منح أهمية قصوى للعقل الفلسفي للعب دور رئيسي في تجاوز الخلافات المتكررة شيئا يساهم بفاعلية في بروز الأنسنة أيضاً. فالإنسان من خلال تفكيره ونقده لذاته وتفاصيل كينونته سيتوصل لمكامن القلقلة في حياته وتخصيص عوائق مصيره فيسعي لنقدها وتفكيكها بقصد تجاوز المشكلات المتولدة بشكل متكرر في محيطه أو مجتمعه، وهو ما تتناوله بصورة مفصلة نظرية "مكر التاريخ" عند هيجل. كما يمكن اعتبار حالة التوسع الجغرافي للدولة وأهلها ومنحهم فرصة الاحتكاك بالثقافات الأخرى بلا ممارسة الهيمنة فرصة مهمة لأن تساعد على ظهور نزعة الأنسنة من خلال طبيعة تمازج الفضائل.

2 / 2
شخصية مسكويه التي أقام عليها محمد أركون أطروحته تتحدث دائما حول الشخص المتعقل المتمتع بالاستقلالية الذاتية وهي التي تلقي علي كاهله مسؤولية ثقيلة تجاه ذاته أولا***، فمسكويه كمثقف بعصره رغم تشيعه لم يحاول فرضه باعتباره من النخب، كما أنه لم يمارس الحياة بحس التفوق على من هم سواه. التوحيدي رغم ندبه لحظه في الدنيا و "غيرته" لم يشن الحروب علي الآخر، لقد كان التعايش بين طوائف الدين وتيارات الفكر كالإمامية والمعتزلة والزيدية والشافعية والحنفية والحشوية كانت جميعها منسجمة في الوسط النخبوي والوسط المثقف، وتقدم إطاراً مرناً للتعبير بتلقائية بما يجعل أي عمل فكري ينجح في الوصول للعامة بأسلوب راقٍ وبحسه الجمالي الذي يلائم زمنه بحيث تُثقف النفوس وتتهذب طالما أن "العقل" أدرك إنسانيته وجمع الكل تحت لوائه المعرفي والأخلاقي.

نزعة الأنسنة كحقبة تاريخية بتنا كعرب، على اختلاف وتنوع مشاربنا، نتفحصها بكل مفردات رجال فكرنا المعاصر من "تحيين" أو "تبيئة" أو "تقويم مناهج" لأن المحنة التاريخية والحضارية التي نتخبط فيها جميعنا تثبت بأننا بعد المصطفي محمد قد فشلنا في تحقيق أمة متصالحة فيما بينها إذ انقسمنا شيعاً وأحزاباً وبتنا نسبح في حمامات دم لا تتوقف بكل الحماقات المتجددة فيها وبوجدانيات خالية وباردة، فأمسى الأمر ملحاً أمام كل هذه المجريات أن نستفيق وأن نتبع طريق العقل والرشاد لنستلهم معنى للحياة بإنسانية حقيقية وأن نخلق أنسنة تليق بنا وبأبنائنا.

هوامش:
* أطاح البويهيون بالخليفة العباسي المستكفي وظل منصب الخلافة رمزياً، ولم تسعَ الدولة البويهية إلى أن تأتي بشخصٍ منها لشغل المنصب، بل تمترست خلف بني العباس في خلافة صورية.
** مصطفي كيحل. الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون. جامعة منتوري. قسطنطينة 2007-2008
*** نزعة الأنسة في الفكر العربي. محمد أركون. دار الساقي. ص. 591