Atwasat

"رجل قصير يجيد الإنصات"

محمد عقيلة العمامي الإثنين 04 مايو 2020, 11:28 صباحا
محمد عقيلة العمامي

ما كانت إجابتي تكون صحيحة لو أنني سُئلتُ قبل أسبوع عن القادة الثلاثة الأوائل الذين كان لهم دور بارز في مواجهة المشكلات الضخمة التي واجهت قيام وتأسيس دولة الهند التي تعد الآن من أكبر (ديمقراطيات) العالم، لأن رأسي لا يتذكر سوى غاندي، وجواهر لال نهرو؛ الذي كان أحد الأبطال الطيبين الذين يحبهم الرئيس جمال عبدالناصر، فهو من الذين صنعوا معه، في مؤتمر باندونج، دول عدم الانحياز، وكانت صوره تملأ الصحف والمجلات المصرية في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، ونراها نحن شباب تلك الحقبة أكثر مما نرى صور فاتنات السينما المصرية، اللواتي احتفظنا بصورهن بين طيات كراريسنا المدرسة. وسوف يخطيء رأسي ويقول لي أن الشخصية الثالثة هي "أنديرا غاندي" ابنه الزعيم الأكبر، وأن هذه سيدة نضجت في وقت اجتازت المرأة الأوروبية حد نيل حقوقها الإنسانية الطبيعية من مشاركة الرجل في المجالات كافة، بل وأعلنت ثورتها الجنسية ورفعت تنانيرها إلى ما فوق الركبة بأكثر من عشر سنتمترات!.

بودي أن أعرف من قرائي من سيقول أن الذي خلف نهرو، من بعد موته سنة 1964 هو (لال بهادور شاستري) واستمر قائدا للهند حتى سنة 1966!

أنا لي عذري فلقد تصادف تنصيبه مع وصولي إلى جزر اليونان، وبداية معرفتي للسويد والدنمارك، وكذلك النرويج! وتصادف زمن رحيله مع ثورة التنانير القصيرة، وأن عروبتي تفرض علىّ أن أتفق مع العرب في قناعاتهم أن هناك الأهم مما يفرض نفسه أكثر من التعرف السيد (شاستري)!

أعترف أنني لم اسمع أبدا، بالسيد ( لال بهادور شاستري) قبل أربع ليال خلت! وأكتشف أنه شخصية لا تقل قوة ولا صرامة ولا إحساسا بمسئولية مثل من سبقاه، إن لم يفقهما؛ لقد انتبه إلى أن مسئوليته تجاه شعبه تتعدى مجرد إبقائهم على قيد الحياة، لأن مشكلات الهند حينها تفوق حد الخيال. كان في (كلكتا) وحدها حوالي 30 ألف نسمة بلا مأوى، وغالبية الهند مبعثرة ما بين حوالي ستمائة ألف قرية، ومجرد ربطها بطرق، وتوفير مياه الشرب ومدارس يحتاج إلى معجزة، ومعدل انفجار سكاني يزداد بمعدل عشرة ملايين، وهذا ما يعادل تعداد السويد وحدها. كل ذلك مع نزاع الهند مع باكستان على إقليم كشمير، وإن كان قد عالج بعضا من مشاكل كشمير مع باكستان، منذ أن كان رجل نهرو الأقرب. وزاد عيادات تحديد النسل، فبعد أن كانت 990عيادة أصبحت بعد سنتين من حكمه 2290 عيادة.

مؤسسو الهند الذين سبقوه وضعوا نصب أعينهم أن تكون الهند دولة ديمقراطية، حتى وإن حكمها حزب واحد، وهو "حزب المؤتمر الهندي الوطني"، الذي أسسه غاندي، واستمر هو القوة الوحيدة الحاكمة، وهذا من الأسس التي استمر (شاسري) في الالتزام الصارم بها، ولقد بذل جهدا خارقا في الحد من المنازعات بين العناصر الإقليمية، والجناحين اليميني واليساري، وقد اشتهر بأنه صانع "ماهر للحلول الوسطى" وهي الأساس الذي يتوافق عليها أي طرفين متنازعين وهو يعي جيدا أن قيام نظام ديمقراطي يتكلم 180 لغة، وله 544 لهجة، لا يتحكم فيها حدود المكان أو الولاية، في مجتمع طائفي هندوسي صارم يتكون من 300 طائفة، وكل طائفة تتفرع منها طوائف أخرى تتراوح ما بين 70 مليونا من المنبوذين وثلاثة ملايين من البراهمة، لقد جاهد رجال الهند الثلاثة الأوائل في القضاء على التمييز الطائفي من خلال التشريعات.

الهند متمسكة حد العجب ببنيانها الديمقراطي، وهذا من أبرز ما ثابر (ساشري) عليه لتكون موحدة قوميا برئيس وزراء واحد، ومجموعة قوانين واحدة.

لقد أقنع (ساشري) العالم بصدق القول الليبي: "أن الرجال - وأنا أقصد القادة - محاضر وليسو مناظر" فطوله لا يتعدى مترا ونصفا، يهمس ولا يصرخ، يستمع ولا يتحدث، تحركه روح صلبة، ويصغي.. ويصغي فيما لا تكاد عيناه الواسعتان ترتفعان، وهو يستمع إلى مختلف وجهات النظر، وبعدما يتخذ قرارا يعرف الجميع أنه حازم.

(ساشري) ثاني رئيس لوزراء الهند ولد فقيرا للغاية، عانى كثيرا، تيتم مبكرا، من النوادر أنه لا يمتلك صورة له وهو شاب، فلقد فسر الأمر أنه لم يكن يملك ثمنها! قال ذات مرة: "أنا لا أعرف شكلي وأنا شاب!". يقول عنه من يعرفونه أنه كان يعبر النهر وكتبه فوق رأسه لأنه لا يملك أجرة "المعدية" وهو من طائفة "كاياسا" الدنيا، فهي طبقة الكتاب والناسخين الحقيرة - أجاد المصدر انتقاء هذه الكلمة! – كان ممن انضموا مبكرا إلى نهرو البراهمي. وحبسه البريطانيون عشر سنوات، ثم أصبح زعيم حزب المؤتمر في الله أباد استدعاه نهرو إلى نيودلهي. وتولى وزارة الهند بعد رحيل نهرو.

من شعارات (ساشري): "العمل الشاق يعادل الصلاة" وكان يعمل 18 ساعة في اليوم، وهو من جعل قطارات الهند تسير في مواعيدها عندما كان وزيرا للمواصلات، وله مثالب عندما تولى وزارة الداخلية، إذ لم شمل الأمة مقاوما الانقسام اللغوي والطائفي والديني.

ومن حكمته أنه عندما هدد زعيم السيخ بالصوم حتى الموت حتى تقوم دولة مستقلة لهم، تركه في هدوء صائما، حتى انهارت مطالبته. وهو من وفق في إقناع المسلمين، أن شعرة الرسول صلى الله عليه وسلم المسروقة هي الأصلية التي أعيدت إليهم. قال عنه نهرو: "لا أحد يتمنى زميلا أفضل منه، إلاّ إذا كان زميلك هو ساشري" فعينه خليفة له.

يوم تنصيبه، مثلما قالت ابنته، ترك السرير الذي كنت أتقاسمه معه، في الساعة الخامسة صباحا، وحاول أن ينسل بهدوء ولكن صحى ولديه الآخرين وزوجته وأمه البالغة 81 سنة وكانوا جميعا يعيشون في غرفة واحدة، وتناولنا إفطارنا معا، وخرج ولا أحد منا يعلم أن ذلك اليوم هو الموعد المقرر لأدائه اليمين كرئيس لوزراء الهند! وقالت أيضا أنه كان يأخذ من مرتبه ما يفي بحاجة أسرتنا، والباقي يحيله إلى جمعية "خدام الهند التي أسسها غاندي. ظلت الاشتراكية هدفه، ولكن من دون تعسف، فلقد اعتمد على المشروعات الخاصة، وكانت البداية إلى وصول الهند إلى ما هي عليه الآن.

فمتى يرحم الله المغلوبين على أمرهم بشخصيات مثل (ساشري).