Atwasat

معذور!؟

صالح الحاراتي الأحد 03 مايو 2020, 01:37 صباحا
صالح الحاراتي

خطر لى ذات مساء ألا أتماهى مع خطاب جلد الذات السائد فى مختلف المواقع ومنصات أهل الكتابة، وأريد أن أحسن الظن بأهلى سكان ذلك المربع الجغرافى المسمى ليبيا، خاصة الآن وفى ظل الأزمات التى تنهال عليهم من كل جانب.

قبل أن أخوض فى حسن الظن هذا أؤكد باعتراف صادق بأنني لست فى حالة "انغماس تبريرى" لتبرئة إنساننا المظلوم، بل كل ما فى الأمر اننى محب، وبحسن نية التمس لأهلنا العذر فيما يفعلونه بأنفسهم من عبث وفوضى.

وأظن أن أول موجبات العذر هو عدم معرفة الأمور على حقيقتها، ولهذا كان عنوان هذه السطور "معذور".

فى معاجم اللغة كلمةمَعْذُورٌ ومَعْذُورَةٌ - والجمع مَعْذُورُونَ، مَعْذُورَاتٌ... (اسم مفعول مِن: عَذَرَ)،
"أَنْتَ مَعْذُورٌ لِأَنَّكَ لَا تَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ" ومَرْفُوعٌ عَنْكَ اللَّوْمُ.
والخلاصة أن المعذور هو من لا يعرف الحقيقة.

أقول معذور أيضا لأننا لسنا استثناء.. وأن طينة البشر واحدة وأن ما يسري على غيرنا من البشر يسري علينا وشواهد التاريخ تؤكد أنه لا توجد ثورة أو تغيير جذري في أي مجتمع بشري إلا وسادت فيه مرحلة من الفوضى والانفلات.. وساد فيه الهرج والمرج والعشوائية وأحسب أن ذلك من طبيعة الأشياء عند تفكك منظومة الدولة المالكة للسلطة القاهرة..

إنساننا معذور لأننى أظن أن معظم السلوكيات البشرية المذمومة هي أمور مكتسبة أي تحت تاثير البيئة والنشأة والتربية والثقافة المورثة وأسلوب الحياة والمعاش السائد وانعكاس كل تلك العوامل على سلوك الإنسان الفرد.. وبما أن حياتنا كانت عبارة عن سجن كبير، مليء بظلم "الفقر والجهل والمرض" ناهيك عن ظلم السجان.. كل تلك العوامل أفرزت نتائج غير محمودة اكتوينا بها بعد تغيير فبراير.

نعم إنساننا معذورلأننا لم نشهد فى تاريخنا أي محاولة حقيقية لتأسيس مجتمع مدني يحترم فيه الآخر وتحفظ فيه الكرامة الإنسانية.. ولم نعرف فى تاريخنا إلا نظم حكم جائرة وقمعية توالت على بلادنا مارست كل درجات الظلم فغاب عن واقعنا التعامل الحكيم المتسامح مع التغيير الذى حدث.

إنساننا معذور لأنه محاصر منذ نشأته بمسلمة عبادة الفرد الزعيم وثقافة المديح وتجنب النقد الإيجابي المسؤول الشجاع، وحدث أن ترتب على ذلك أحادية في الرؤية وترسيخ لثقافته الموروثة الإقصائية سواء كانت "سياسية أو دينية"، وتربت أجيال على حلم وهمي فحواه أننا وجدنا الحل الجذري لمشاكل البشرية، وأننا خير أمة وأفضل شعب؛ وترسخت تلك الأوهام من خلال إعلام زيف حقيقة أوضاعنا تحت شعار العروبة تارة والدين تارة أخرى فتسلل إلى النفوس الاستعلاء الوهمي والكسل عن تحمل مسؤولية أعمالنا بحيث وجدنا فى شماعة المؤامرة الكونية ملجأ للهروب من مواجهة حقيقتنا،

ناهيك عن نظام تعليمي عمق ثقافة الشعارات وخلق آفة قاتلة تمثلت في عقلية النقل لا العقل، كل ذلك ساهم في حالة الغياب عن التعامل مع الواقع بشكل إيجابى.

إن التاريخ لم يذكر ثورةً اتسمت بنجاحٍ سلس؛ وإنما احتمال النجاح قد يتساوى مع احتمال الإخفاق، بالطبع كانت أحلامنا كبيرة وأظن أنه ليس من حق أحد أن يدعونا بألا نحلم، نعم أغفلنا ولم ننتبه وكان علينا ألا نحلم وننسى الاحتمالات المتصادمة مع أحلامنا وأمنياتنا، حتى إذا حدثت هذه الاحتمالات نكون على استعداد للتعامل مع الواقع المستجد ولكن رغبتنا الملحة فى الخلاص من الاستبداد دفعتنا إلى شيء من الغفلة وعدم الانتباه.

نعم إنساننا معذور ويعاني خيبات الأمل وانحراف المسار عما تمناه. وذلك لا يعني أبدا أنه سيء بالضرورة!.

فمن هو على قيد الحياة اليوم يحمل ويعاني تبعات عقود وربما قرون من الاستبداد "الدينى والسياسي والاجتماعى" ولا شك أنه سيتعافى وأن التجربة خير معين له.. فبدون الممارسة لن تتضح لنا سؤاتنا وعلاتنا، وخلال الممارسة والتجربة تحدث الأخطاء ويفترض التعلم منها.

إنساننا معذور لأنه هناك عامل آخر أظنه يفعل فعله بشكل لا يثير الانتباه، وهو عامل الجغرافيا ودورها أيضا، حيث موقعنا الجغرافي - كان (ممر عبور) لهجرات كثيرة وذلك ساهم فى عدم الاستقرار والديمومة لتأسيس مجتمع مستقر إلا فى محطات قصيرة وبقع جغرافية محدودة فى هذا الوطن المترامي الأطراف.. وإذا اجتمعت الجغرافيا مع تعاقب نظم لا تعرف إلا القهر والعنف والإذلال عنوانا.. وحتى لا نذهب بعيدا نستحضر من الذاكرة القريبة مرحلة العثمانيين والاستعمار.

وأخيرا الظلم المحلي باسم الدفاع عن الدين والظلم باسم الوحدة والظلم باسم التقدمية.. إلخ.

لقد انتشرت على وسائل التواصل صور لمرحلة قديمة من تاريخنا في العهد الملكي وفي ظني أن الحسرة على ذلك الماضي هي الدافع لنشر تلك الصور كنوع من النوستالجيا ولكني أراها تؤكد أننا على استعداد مثل أي بشر لنكون منضبطين ومنظمين ومدينيين وحضاريين. ولكن تلك المرحلة كانت قصيرة ولم تتعمق في الذاكرة الجمعية.. ولهذا تلاشى ذلك الاستعداد من أول معول هدم جاء به النظام التالي الذي رفع شعار "الخيمة انتصرت على القصر" الذي صار عنوانا لسياسة وتوجهات ذلك النظام .

لقد مارسنا فيما مضى جلد الذات حتى الانسحاق واليوم نحن بحاجة لأن نعذر بعضنا بعض ونفكر جديا فى زرع بذور الثقة بأنفسنا والخلاص من ثقافة الكراهية كخطوة أولى لتجاوز ما نحن فيه من صراع عبثي، أعلم أن التغيير يحتاج إلى الكثير من دور الدولة المفقودة الغائبة وأيضا إلى جهد ثقافي مكثف لتغيير ما يحتويه العقل الجمعي من مخلفات. وكل ذلك وغيره يحتاج إلى جهود مخلصة من أهل الفكر الذين لا تخلو ساحتهم من سلبيات الماضى للأسف.

وإذا كانت رغبتنا وغايتنا هى بقاء ليبيا وطنا موحدا فلا سبيل أمامنا إلا بالتسامح كخطوة أولى لجمع هذا الشتات القائم، واعتبار أن ما نشهده اليوم هو دروس عملية ومكثفة وقاسية ودموية في السياسة حتى نتيقن بسوء ما يختمر فى عقولنا منذ قرون لنحررها من خطيئة "التغلب" الراسخة وليحل محلها اليقين بحتمية وضرورة تداول السلطة وجعلها من مسلماتنا وبديهياتنا.. وكلما قل عنادنا الطفولي؛ أسرعت بنا الخطى للسلم المجتمعي ووفرنا الوقت وقللنا فاتورة الدماء.