Atwasat

سوبرمان والأكاديمي الأخرق

سالم العوكلي الثلاثاء 28 أبريل 2020, 10:56 صباحا
سالم العوكلي

في المقالة السابقة تطرقت من خلال كتاب "نظام التفاهة" للدكتور والفيلسوف الكندي، ألان دونو، إلى سيطرة التافهين (الميديوكريتيس) على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة، وكيف يستغل فضاء التنشئة والتعليم بكل مراحله في خلق بشر لاهثين (يسمون تكنوقراط) مهمتهم الحفاظ على استمرارية هذا النظام، يعملون طوال النهار والأسبوع من أجل تسديد فواتيرهم فقط، مع رعب دائم بأن يجدوا أنفسهم في الشارع دون عمل أو بيت إذا ما حصل اختلال في هذا النظام، وهذا الرعب سيصبح جزءا من حياة الناس الذين لا يجدون وقتا للتأمل أو الاستمتاع بمداخيل أعمالهم المضنية. يمس هذا النظام كل مجالات الحياة من اقتصاد وقانون وعلوم وسياسة، ما يؤدي إلى إصابة العقل الجمعي بالعقم عبر نشر الميل الحاد إلى الفتور الثقافي والسياسي.

تحت عنوان "مثقفون صغار" يشير دونو إلى تحليل مدرس اللغة الإنجليزية: مارشال ماكلوهان، لشخصية كلارك كينت الخيالية التي ظهرت في الكتب الأمريكية المصورة إبان ثلاثينيات القرن الماضي، كبديل مدني للبطل الخارق سوبرمان، ووفق تحليل ماكلوهان في كتابه "العروس الميكانيكة" يجسد (سوبرمان) "التخلي عن مسؤولية التفكير. وفي جانبه البطولي، يظهر هذا التخلي من خلال شخصية سوبرمان الأحادية، وبالطريقة التي يختزل فيها العدالة إلى محض شأن للقوة، وبادعائه، من دون تعليم أو خبرة، بالمعرفة الخالصة حول كل شيء. إن نفاد صبره بشأن (العمليات الشاقة للحياة المتحضرة) وميله الواضح إلى الحلول العنيفة، هما أيضا مظاهر واضحة لهذا الخيلاء. وكفشل للحياة المدنية، فإنه يمثل (الهزيمة النفسية للإنسان التكنولوجي)". وإذ يصف كينت بالأكاديمي الأخرق فإن افتتان القارة الأمريكية به يشير إلى سقوط الفكر المنظَّم ، "ورغم أنه ينظر إلى نفسه كنكرة فقد انزلق إلى أوهام العظمة (التي يُعبر عنها اليوم بالامتياز والمرتبة الرفيعة)". تذكرني شخصية كينت وافتتان القارة الأمريكية به رغم رعونته بشخصية دونالد ترامب الذي وضعته هذه الموجة الشعبية من الافتتان على رأس أقوى أمة فوق الأرض في لحظة وجد شعبي منقطع النظير، وهو نموذج جلي وصل إلى أعلى منصب في أقوى دولة في العالم بعد أن تدرج في سلم هذا النظام، وكان برنامجه الانتخابي موجها تجاه هذا الفتور الثقافي والسياسي، حيث الشعبوية هي غاية هذا النظام النهائية كي يحكم قبضته على كتلة بشرية هائلة تم إعدادها عبر نظم تعليمية وتربوية وإعلامية واقتصادية مُحْكمة، ومن خلال إطلاق شخصيات كارتونية وسينمائية ستشكل النموذج المشتهى لأجيال كاملة من أطفال قلدوها في كل شي: "فكلما كان الشخص أكثر صغرا ولؤما اشتهى أن تكون له قوة سوبرمان".

العام 1938 ابتكر كل من جيري سيجل وجو شاستر شخصية السوبرمان الخارقة في قصص مصورة، ونتيجة لما حققته هذه الشخصية القادمة من كوكب آخر من نجاح وانتشار دفع بعض المنتجين لتقديمها في السينما وظهر أول عمل سينمائي يظهر فيه السوبرمان بملابسه الشهيرة العام 1978 بأجزائه المتتابعة، لتتوقف السلسلة حوالي ربع قرن، منذ العالم 1980 إلى 2006 حيث عاد في فلم بعنوان (عودة سوبرمان) وليُعلن بعدها التجهيز لجزء آخر يظهر فيه السوبرمان الخيّر شريرا لأول مرة على أن يتم عرضه العام 2016، ولا أعرف إذا ما تم إنجاز هذا الجزء، لكن في التوقيت نفسه ظهرت شخصية دونالد ترامب وكأنها تمثيل للسوبرمان الشرير، الشعبوي الذي بقدر ما يرتكب من حماقات بقدر ما يكبر خيلاؤه وتزداد شعبيته.

والشخصيات تتغير وفق مناخ المرحلة ومتطلباتها، وهي تغيرات ليست عفوية أو مرتبطة بخيال الفن فقط، لكن من أجل المحافظة على أوهام الجمهور، يعمل العلماء المكرسون لخدمة هذا النظام مع مجموعات تركيز (Focus groups) وبالاعتماد على دراسات واستبيانات ونظريات من أجل تشكيل هذه الشخصيات الشهيرة (سوبرمان، زرور، روكي، رامبو.. إلخ). وفق الطرق الملائمة للمتغيرات، فتطرح أسئلة وتصورات من قبيل: "هل ينبغي أن يكون سوبرمان قاسيا أم حساسا، عرضة للخطأ أو معصوما، مرنا أم غضوبا؟" وبالتأكيد لم يطرح الجزء الرابع بتقديم الشخصية الملائكية المحبوبة إلى شخصية شريرة إلا بعد جلسات تركيز وجدت أن الظروف أصبحت ملائمة، وتحديد الموعد مع نهاية فترة أوباما الرئيسية ربما له دلالة، سواء كانت مصادفة أم أن المرحلة فعلا تحتاج إلى سوبرمان شرير لا تتوقف شعبيته عن النمو. "إن المعارف التكنولوجية قد جعلت من جماليات شخصية سوبرمان هذه شيئا حقيقيا أكثر فأكثر، وكأن الهدف كان يتمثل بالانتقال من التمثيل إلى التقديم، من السرد إلى الهلوسة".

على المستوى المحلي ومن خلال استهلاك هذا النظام بأكبر قدر من الرداءة، حيث تكرس سلطة التفاهة (الميديوكراسي) دون عنت التفكير في مزيجها من الكفاءة أو المهارة أو الرغبة الدائمة في التعديل، تذكرني هذه المثابرة في تكريس نظام أو حكم الرداءة، ما كان يحدث في الجامعات الليبية، حيث تعطي فرص إكمال الدراسات العليا لأكثر الطلاب ضعفا ورداءة في معدلات النجاح، بينما يبعد المتفوقون بحجج تتعلق بالولاء لمنظومة التفاهة، لتكتظ الجامعات فيما بعد بأكداس من أعضاء هيأة التدريس الذين طرحهم نفس النظام الانتقائي ليفرخوا أجيالا تشبههم، "وهم لا يجدون من يحاكونه سوى أنفسهم"، وتستمر متوالية تكديس النخب أو التكنوقراط عبر هذا النظام. واللافت أن أول حكومة بعد سقوط النظام اشترطت في من يرغبون في مناصب كبرى الحصول على شهادات عليا دون أن تلتفت للنظام الذي كان يملأ الوسط الأكاديمي بأكثر الخريجين رداءة ولتكون هذه الحكومة استمرارا طبيعيا للنظام نفسه. فهي وجدت نفسها وسط بركة ضحلة صنعتها سنوات من التدبير لهيمنة هذا النظام ولا أحد سيتصور أي معايير أخرى يمكن أن تتخذها للتكليف بالمهام والمسؤوليات.

يقول الروائي جوستاف فلوبير في إحدى تجلياته الشعرية الغاضبة: "آه أيتها التفاهة المنتنة، الشعر النفعي، أدب البيادق، الثرثرة الجمالية، القيء الاقتصادي، المنتَج المقزز لأمة مستهلكة، إنني أكرهك بجميع قواي الروحية! إنك لست بالغرغرينا، بل أنت ضمور عضوي! إنك لست بالالتهاب الساخن الأحمر للأزمنة المحمومة، بل أنت الخُرّاج البارد ذو الأطراف الباهتة مصدره في تجويف تسوس عميق".