Atwasat

رجوعُ الشيخ إلى إبداعه

محمد عقيلة العمامي الإثنين 27 أبريل 2020, 09:50 صباحا
محمد عقيلة العمامي

".. أنثى بُسطة في وسوط الصبا. وجه ذو بياض يتورد في الخدين، عينان لوزيتان، شعر خرنوبي مسبوط ، صدر ناهد تقبّب بتفاحتين صغيرتين تمردتا على ضيق القميص فغالبتا الزر الفوقاني وانشقتا عن نهر النهدين. خصر رهيف حُزم بتنورة مزدانة بورود على بياض حتى الركبتين، فتلوح تفاصيل التحت واستدارة وتناسق الردفين.

انشدهتُ وخجلت له، وعجبتُ مني إذ كيف لهذا " الأنا " الآيل أن يجوس في كل هذه التفاصيل، ويتَمَلّى ويتحلى دون وجل؟! .."

واستوقفتني كلمة "انشدهت"؛ توقفت عندها، لم أواصل القراءة وجدت فيها فرصتي أن أناكف صديقي الأستاذ محمد على الشويهدي، الذي كثيرا ما يصطاد لى أخطاء أغلبها إملائية، ويحاضر علىّ ساعة عن أهمية المراجعة والتدقيق لأن فنيي التصفيف، يقصد تصفيف الحروف في المطابع، أيام ما كانت الكلمة تصف بحروف مصنوعة من رصاص لتشكل كلمة، ثم وضعها بجوار كلمات أخرى لتشكل جملة، من جُمل نص في صحف ستينيات القرن الماضي !

- "راجع يا أخي.. فني الطباعة مهمته أن يصف ما تكتب، وليس من مهمته تصحيح أخطائك!". كانت تلك النصائح تصل أحيانا درجة التوبيخ اسمعها منه، مطأطئ الرأس، كلما استلم مني مقالا، بعدما تولى جريدة الحقيقة، التي غير النظام السابق اسمها الذي لم أذكر إن كان المجاهد، أو الثورة. وكنت أتضايق أحيانا عندما تكون الغلطة مجرد فاصلة أو همزة، ولكنني أتقبلها أحيانا على مضض، لأنه صديقي أولا، ورئيس التحرير ثانيا! و "سابقني بليلة ويعرف كل حيلة".

وتوقفت عند كلمة "انشدهت! " وفي نص مكتوب بالكومبيوتر، لا رصاص ولا تصفيف، وأن أعلم أنه يستخدم الكومبيوتر بأصبع واحد وأن هذا النص، لأبد أنه بدأ في كتابته من رمضان السنة الماضية!.

الأستاذ محمد الشويهدى، دقيق حد العجب في انتقاء كلماته عندما يترك لك ورقة عن أمر ما، في بيتك أو محل عملك، فما بالك عندما يكتب مقالا.

تعود معرفتي وعلاقتي التي تخلَقت منها صداقة منذ مطلع سنة 1958 عندما تعينت في نظارة الأشغال، والتقيت صديقي وصهري إبراهيم سعد الربع، فهو الذي عرّفني على أخي محمد الشويهدي، وشلة سيدي حسين كلها، حينها كان صديقي محمد متفرد في شخصيته، قارئا نهما، وبالتالي مثقفا، ولغته العربية ممتازة قياسا للغتي في ذلك الوقت، والآن أيضا. كتب مبكرا العديد من الأغاني التي تغنى بها مطربونا، وكتب أيضا بضعة قصص. ثم في مطلع الستينيات أوفد إلى العراق لدراسة الهندسة الزراعية، ولكنه لم يجد فيها المجال الذي سيطر عليه من مطلع شبابه، وهو الكتابة. ما زلت أحتفظ برسائل أيام كان هناك بريد، ولعلني أعود إليها يوما وأكتب، من خلال تلك الرسائل، عن جيل الزمن الجميل، الذي ترعرع مع قيام دولة ليبيا.

عاد الأستاذ محمد الشويهدي، والتحق بكلية الآداب وتخرج في قسم التاريخ وعمل في الوقت نفسه بجريدة الحقيقة محررا، واستفاد كثيرا من نخب كُتَابها. ثم أصبح في مطلع السبعينيات رئيس تحريرها، وتولى وزارة الثقافة، وعددا من المهام الإعلامية، ولم تنقطع كتاباته، وإن كانت قليلة، ولكن من بعد تقاعده انتبهت أنه يكتب ما اختزنه طوال تجربته.

كان آخر ما قرأت له بتمعن هو "روايته" السوق القبلي التي ألحقها بمجموعة قصصية. السوق القبلي في تقديري أنها رواية قصيرة، ولذلك أفردها كعنوان من القصص الأخرى. أما لماذا جاءت قصيرة، فلأن قناعته "بضرب يزد ولا يزد" واحدة من أهم ما يقال على نصوصه، بالإضافة إلى حرصة على إبراز المشهد والمكان والحقيقة.

وأتممت قراءة تحفة الأستاذ محمد الشويهدي قصة "رجوع الشيخ إلى مثواه " التي نشرتها صحيفة أخبار الأدب في بستانها بعدد 19/ 4/ 2020. وطويتها، محاولا تذكر كثيرين كتبوا عن الحالة التي تناولها صديقنا المبدع. وتذكرت أنني كتبت عنها مرتين، "ركبتي اليسرى" وأيضا "يا حويج "، والقصتان تناولتا الموضوع ذاته. الأولى تناولت الجانب الحسي كألم المفاصل في خريف العمر، والثانية في السلوك، فكثيرا ما يغيب المرء في خريف العمر في ذكرياته، لدرجة أنه ينفصل تماما عن الواقع، ويتبسم من دون أن يدري.

ولكن الشويهدي في قصته هذه تناول المسألة نفسها بأسلوب، لا أعتقد أن أحد سبقه عليه، وهو توظيف الأسلوب الإبداعي في الكتابة أو أون شبابه ، ولو عدنا لحوالي نصف قرن أو أكثر سنجد أن الكلمات، والأسلوب الذي وظفه، هو ذاك الذي تحرر من نهج البلاغة الكلاسيكية من سجع وجناس، ومماثلة، وموازنة، كالتي كتب بها القاضي الفاضل أعماله، ولعله جيل التنويرين أمثال الدكتور طه حسين والزيات والعقاد، وهؤلاء هم الجيل الذي عاصره الشويهدي في شبابه فقدم حكايته بأسلوبهم وبالتالي، زمن شبابه، فهذه الجمل، على سبيل المثال، وكأنها من كتابات طه حسين:

"أنثى بُسطة في وسوط الصبا" أو "خصر رصيف حُزمُ بتنورة." أو "أشرقت وضاءة في بهاء تتألق متأنية الخطا.." وغيرها كثير بتواصل النص.

"وضاع الفأر الذي أمسكت به العجوز" بمجرد أن انتبهت إلى فكرة الشويهدي، فعدت سريعا وبحثت عن معني "انشدهتُ" واكتشفت أنها ليست غلطة مطبعية ولكنها كلمة عربية تخدم المعني، فضاع "الخانب" الذي أمسكته العجوز!
"رجوع الشيخ إلى مثواه الأخير" قصة غاية في الإبداع.