Atwasat

تحت رعاية التفاهة يشنق الشعراء أنفسهم

سالم العوكلي الثلاثاء 21 أبريل 2020, 06:59 صباحا
سالم العوكلي

كتاب "نظام التفاهة" لمؤلفه الكندي: ألان دونو، يتمحور حول سؤال أساسي: "ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟"، وعبر اقتراح إجابة مبدئية تتقصى الكيفية التي يُشيَّد بها هذا النظام، يذهب إلى أن هذه التفاهة الحاذقة تتمتع بكفاءةٍ تتمحور حول القدرة على التعرف على شخص تافه آخر، حيث يشكلون فريقا يدعم بعضه البعض "لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، لأن الطيور على أشكالها تقع". وهو إذ يربط أحيانا التفاهة بالغباء المعياري المثابر، فإنه يقدمه كضرورة محاطة برعاية وخيالات السلطة، مستشهدا بمقولة روبرت موسيل "إذا كان المظهر الخارجي للغباء لا يشبه التقدم، المهارة، الأمل، أو الرغبة الدائمة في التعديل، فإن أحدا لن يرغب في أن يكون غبيا" ويضع الوصفة اللازمة لتنمية هذه المهارة التي تجعل من التفاهة نظاما مثابرا يملك كل مقومات نجاحه "كن مرتاحا في إخفاء أوجه قصورك في سلوكك المعتاد، ادّعِ دائما أنك شخص براغماتي، وكن مستعدا للتطوير من نفسك؛ فالتفاهة لا تعاني من نقص بالقدرة ولا بالكفاءة.". منوها إلى أن التافهين "لا يجلسون خاملين؛ إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد: فالأمر يتطلب مجهودا للخروج ببرنامج تلفزيوني ضخم، أو لتعبئة طلب منحة بحثية ممولة من وكالة حكومية، أو لتصميم أكواب صغيرة وجذابة وذات مظهر إيروديناميكي للّبن الرائب، أو لصياغة المحتوى الخاص بمراسم اجتماع وزاري مع وفود نظيرة ما.". أما الذين في مراكز السلطة فإن إعداد أو تنمية مهارات التافه توفر لهم الروبوت البشري الذي يستطيعون نقل تعليماتهم عبره بما يسمح بترسيخ سلطة نظامهم.
يدور الكتاب، الصادر عن دار سؤال، كما تعلق مترجمته: د. مشاعل الهاجري، حول فكرة محورية : "نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجيا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديث. بذاك، وعبر العالم، يلحظ المرء صعودا غريبا لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعيارييَن: فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيّب الأداء الرفيع، وهُمِّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعِد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية، ودائما تحت شعارات الديمقراطية والشعبوية والحرية الفردية والخيار الشخصي، حتى صار الأمر يذكر بما كان مونتيسكيو يحذر منه من وجوب صون الحرية عن الابتذال، عندما قال إن "ممارسة الحرية من قِبَل أكثر الشعوب تمسكا بها تحملني على الاعتقاد بوجود أحوال ينبغي أن يوضع فيها غطاء يستر الحرية مثلما تستر تماثيل الآلهة".

تستخدم كلمة ميديوكريتي (Mediocrity ) لوصف طبيعة الشخص أو حالته من حيث التفاهة أو الابتذال أو السخافة أو تواضع المستوى، فيما كلمة (Mediocracy ) كلمة جديدة على القاموس نسبياً، فلم تظهر إلا حوالي العام 1825، وهي تعني النظام الاجتماعي الذي تكون الطبقة المسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين، أو الذي تتم فيه مكافأة التفاهة والرداءة عوضا عن الجدية والجودة.

سمي دونو مثل هؤلاء الذين يتكاثرون بالانقسام مثل الفيروسات (السيلسيون) نسبة إلى شخصية اسمها (سيلسي) لا يذكر مرجعها "كان (Selse ) ينحدر من خلفية تافهة، ومع ذلك فإن أشخاصا من ذوي المراتب الاجتماعية العليا كانوا يتأثرون به: لم يكن عالما ولكنه كان ذا علاقة بالعلماء، كان قليل الجدارة ولكنه كان يعرف أشخاصا ذوي جدارة كبيرة، لم يكن حاذقاً ولكنه كان ذا لسان يجعله مفهوما وقدمين تحملانه من مكان إلى آخر. أما وقد أصبحوا جماعة مسيطرة الآن، فإن سيليسيي العالم هؤلاء ما عاد أمامهم أحد يحاكونه سوى أنفسهم. لقد صاروا يقبضون على السلطة تدريجيا، من دون علم منهم، تقريبا، بهذا الذي يفعلونه. إن كلاً من المزايا غير المستحقة، التواطؤ والتآمر هي أشياء قد جعلتهم يتربعون على قمة المؤسسات".

يركز الكتاب في أغلب فصوله على نظام التعليم، وعلى مجاله الأكاديمي خصوصا، باعتباره المجال الذي يعمل فيه المؤلف كأستاذ جامعي، تتم فيه صناعة هذا المركب السحري الذي ينتج ما يسميه "كفاءة التفاهة" وهيمنة الشركات التجارية على الأوساط البحثية وتوظيف الأكاديميين لصالح السوق، وهو إذ يتقصى آليات هذا النظام في الدول المؤثرة فإن الدول المستهلكة لكل شيء تستهلكه بأردأ صوره.

في مقالة له بعنوان "في مديح الأمي" يستحضر هانز ماغنوس إنزنسببرجر، الأصول البعيدة للمشكلة : "العمل على جعل الشعب متعلما لا علاقة له بالتنوير. كان محسنو الثقافة وراهبوها الذين دعوا إلى ذلك مجرد شركاء للصناعة الرأسمالية، التي كانت تتطلب من الدولة أن تُعد لها عمالة ماهرة جاهزة لها... كان ضرب آخر من التطور على المحك. لقد كان الأمر يتعلق بترويض الأميين، هذه ــ الطبقة الأدنى من الناس ــ باستبعاد خيالهم وعنادهم. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا لم يتم استغلال قوة عضلاتهم ومهاراتهم الجسدية فقط، بل وعقولهم أيضا".
تعري جائحة كورونا الآن هذا النظام في العالم، لكنه نظام متغلغل ومثابر وسيعمل على التحكم في عالم ما بعد هذه الجائحة، ولن يردع نظام التفاهة هذا إلا ثورة عالمية تطالب بإسقاط هذا النظام، أو ربيع كوني تشارك فيه قطاعات واسعة من الذين ضاقوا به وبجنان الضرائب والفواتير والأوبئة الغامضة ولوبيات التجارات المؤذية (سلاح ومخدرات وأعضاء بشرية .... إلخ ). كورونا منحنا أسلوبا لهذا الاحتجاج الكوني، يتمثل في ما يقدر البشر الضحايا على فعله حين يقررون عصيانا مدنيا اختياريا مثل هذا العصيان المدني الإجباري الذي فرضه كورونا وضرب مناطق القوة التي يتحكم بها نظام التفاهة في الأرض، وفي الفضاء أيضا.

"إن الناس لا يصبحون ثوريين لأنهم يحبون الأزمة أو الكارثة، بل يصبحون كذلك لأنهم يخشون هذه الأزمة أو الكارثة التي يقودنا إليها النظام الراسخ لزمننا". كما يقتبس المؤلف من الكاتبة الماركسية روزا لوكسمبورج التي نشطت بداية القرن العشرين. مضيفا: "إن التفكير في الثورة بطريقة غير رومانسية يفترض أنه ليس لدينا أفكار مسبّقة حول الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها. فالتعرف على الثورة باعتبارها شيئا ينتمي إلى مجال الضرورة هو أمر أكثر أهمية من التعرف على تكتيكات حصرية أو حركات تاريخية حتمية... يمكننا أن نتصرف كما لو أن أفعالنا ستطيح بالضرورة بنظام يتسبب في خراب كبير في ذات الوقت الذي يؤكد فيه على حقه في أن يطعمنا بالملاعق، يمكننا أن نتطلع إلى اليوم الذي ستتداعى فيه ثقة الأغلبية بخطاب هذا النظام.". أو كما يختزل جوهر قسوة هذا النظام في قوله: "تحت رعاية التفاهة يشنق الشعراء أنفسهم في زوايا شققهم الفوضوية".