Atwasat

محنة التسامح

رافد علي الإثنين 20 أبريل 2020, 09:37 صباحا
رافد علي

لازال التسامح مفقودا في ليبيا منذ اندلاع الصدام الدامي بين الأخوة الأعداء، وما شابه من حالة إرباك في العمق الاجتماعي الليبي المتجانس دينياً، إذ نقف جميعاً على أعتاب عشرية مضنية ومفقرة وشديدة الدموية. التسامح قد أمسى مطلباً ملحاً اليوم على هامش حمامات الدم المتجددة، والسِجلات السياسية المتصادمة، والتي لا تتردد أحياناً في السقوط في البذاءات، وهذا يستوجب منا الوقوف عند مفردة التسامح لملامسة بعده الأخلاقي، ومعرفة مرجعيته التاريخية في ثقافتنا العربية والإسلامية من خلال طرح التساؤلات عما إذا كان التسامح شيئا مفتقدا في حياتنا وثقافتنا أم أنه شئ غير متجذر باعتبار أن تاريخنا كشعوب متخلفة عمادها القبيلة والعقيدة والغنيمة.

المرجعية للتسامح كمبدأ أخلاقي تجد لها براحاً خاصاً في تاريخ الفلسفة الغربية إذ يعتبر التسامح سليل اجتهاد العمل الفكري الأوربي الذي عايش ويلات الحرب الكاثوليكية ضد البروتستنتية، حينما كانت الكنيسة في روما تفرض هيمنتها على المسيحيين، وترفض التسامح مع من يخالف الكثلكة ونهجها في العقائد، وتتدخل في شئون السلطة الدنيوية للحكام والعباد على اتساع القارة الأوربية لإجبارها على عدم مناقضة الإجماع الديني وفق النظرة الكاثوليكية، فالكاثوليكية تعنى في اليونانية الشمول والكلية والعالمية. فأمام عنف الصدام بتلك الحرب التي اشتعلت في دول أوربية عديدة كفرنسا وأسبانيا وإنجلترا، كتب جون لوك "رسائل في التسامح"، وتعاطاها معه في الطرح رجال الفكر بأوروبا على امتداد حقبة التنوير ومرحلة صعود نزعة القوميات بذات القارة حتى أضحى اليوم التسامح مفهوماً بحمولة حقوقية في البلدان التي تقدس الاختلاف وتحترم الحريات على كل المستويات المختلفة، كحرية التعبير والاعتقاد وغيرها من الأسس الأخرى التي تقوم عليها الحداثة وما بعدها، وأصبح التسامح معها اليوم لبنة لتحقيق السلام وترسيخ نهج التنمية. وقد أعلنت منظمة اليونيسكو في هذا الاتجاه ميثاق إعلان مبادئ التسامح في نوفمبرعام
1995.

مفردة التسامح في لسان العرب غير موجودة مما جعلها تعتبر أنها مفردة دخيلة على لغتنا كما يرى إبراهيم أعراب في كتابه "الإسلام السياسي و الحداثة"، في حين اعتمد محمد عابد الجابري تعريفاً عاماً للتسامح هو "موقف فكري وعملي قوامه تقبل المواقف الفكرية والعملية التي تصدر من الغير سواء كانت موافقة أو مخالفة لمواقفنا." مشيراً إلى أن البعثات التعليمية العربية الأولى هي ما سمحت للعرب والمسلمين بالاحتكاك الفكري مع مفهوم التسامح Tolerance.

رغم هذا الفراغ المصطلحي عربياً يظل رجالات الفقه الإسلامي وعلماء الدين في الإسلام، ولازالوا، يجادلون بأن التسامح كمبدأ أخلاقي - أو فلسفي- مكفول إسلامياً من خلال مبدأ العدل بين أبناء الأمة الواحدة أو بين المذاهب المختلفة فيه، وبينهم و بين أهل الذمة وسواهم. كان محمد عابد الجابري قد قارب هذا التوجه في كتابه "قضايا في الفكر المعاصر" ضمن نهج التبيئة للمفاهيم الذي يتبناه كحجر أساس في مشروعه الفكري الذي انطلق في ثمانينيات القرن المنصرم مبرزاً ابن رشد كصيغة فلسفية للتسامح في مشروعه. على الطرف الآخر يجادل بعض مفكري العرب المعاصرين خلال تفكيرهم في التسامح كشحرور وعلى أمليل، على سبيل الذكر، بأن التسامح يظل بارزاً في لحظات تاريخية معينة في تاريخنا الإسلامي، كما هو الحال عند المعتزلة، أو مع بزوغ نزعة الأنسنة عند الجاحظ والتوحيدي ومسكويه الذي كان أطروحة محمد أركون بالسربون للدكتوراه في النصف الأخير من القرن الماضي.

السلفية الإصلاحية في الإسلام وعلى رأسها الشيخ محمد عبده في كتابه "الإسلام والنصراوية بين العلم والمدنية" حاول أن يبرهن على أن للإسلام السبق في التسامح، من خلال إبراز وقائع تاريخية لحضارة الإسلام تسامحت فيها مع الآخر. الشيخ عبده في كتابه أعلاه لم يقتصر على استخدام مفردة "تسامح" إذ يلجأ إلى استخدام مفردة "تساهل" وهو يمارس حق الرد على أفكار المستشرقين، إرنست رينان وهانوتو، بما يعزز الاعتقاد بأن المصطلح أو المفهوم تسامح غير متمترس في قالب علمي منضبط كما هو حال أي مصطلح فقهي آخر متداول ومعروف في الشريعة الإسلامية، وبما يبرز أن التسامح، كموقف أخلاقي مستقل بذاته عن أي قيمة عليا أخرى، كالعدل أو الإيثار، لم يكن ضمن المفكر فيه، حسبما يجادل أركون في ورقته البحثية بندوة قرطاج في تونس للتسامح والتي نشرت بالمجلة العربية لحقوق الإنسان تحت عنوان التسامح واللاتسامح في التراث الإسلامي-2 أكتوبر 1995- معللاً ذاك العوز المفاهيمي بثقافتنا لضراوة الأقفاص الدوغمائية- عقائدية- ولمصادرات العقلية الأرثوذوكسية بثقافتنا الإسلامية حسب تعابيره المعتادة.

وفي خضم هذه التجاذبات بين رجالات الفكر والفقه حول التسامح نفياً وتوفيقاً وصولا للاستنتاج بأن التسامح يظل يعاني منذ عصر التدوين من عدم الانضباط داخل منظومتنا الفكرية، نجد أن السلفية المتطرفة في عالمنا تتخذ موقفاً جهورياً بالرفض لمبدأ التسامح تجاه الآخر على كافة الأصعدة بما يتجاوز موقف الشيخ الأفغاني ذاته كمصلح إسلامي، الذي اتخذ موقفا مشككاً تجاه التسامح باعتباره طرحاً مقدماً من قبل المستعمر والمحتل. منظمتا القاعدة وداعش أمثلة معاشة اليوم لواقع رفض التسامح مع من هم على ملة الإسلام طالما أنهم ينتهجون نهجا لا يقره " الخليفة" أو "إمام الأمة". الشيخ المتشدد عبد السلام ياسين، زعيم حزب العدالة والإحسان المحظور بالمملكة المغربية، كتاباته تصب في هذا الاتجاه بلا مواربة، فهو لا يتسامح مع قضايا المرأة المعاصرة بالمطلق، كما أنه لا يتسامح مع مسألة الأمازيغية بسبب تخوفات تاريخية مردها عنده للظهير البربري أيام الاستعمار الفرنسي، ولأسباب سياسية مفادها الخشية من شبهة النزعة الانفصالية والنيل من مكسب التعريب بالمملكة، ولسبب ثالث المنصب علي جدلية النزعة العرقية وما يروجه الكونغرس الأمازيغي بباريس من خطاب يصفه بالمتطرف.

السلفيه الإسلامية بالمشرق العربي لا تبتعد في عدم تسامحها وتخوفاتها من الطائفة الشيعية بما يشبه السلفي الأصولي بـ "المغرب الكبير"، حسب تعبير مالك بن نبي، بحكم ارتباط الشيعة وجدانياً بإيران، ولما لهذا الارتباط الروحي من أبعاد سياسية أثناء حكم الشاه في عموم الحال، وما تعيشه المنطقة منذ صعود الملالي سدة الحكم في طهران، ورفعهم شعار تصدير الثورة الإيرانية بالمنطقة. إلا أن السلفية السنية بالمشرق العربي ذاتها لا تتسامح من السلفية الحديثة بالشمال الأفريقي و المتمثلة في حركة الأخوان المسلمين باعتبارها تيارا دينيا حديث النشأة وتنظر إليه باعتباره عنصراً دخيلاً على العقيدة السلفية بمنطقة الخليج التي يهيمن عليها التيار الوهابي وعماده المذهب الحنبلي. التقارب التاريخي بين الإخوان المسلمين والوهابية وقع بعد أن "تسلفت" قيادات الأخوان وعناصرها الهاربة من مصر جمال عبدالناصر. وهذا أمر يصب في خانة التنازلات والتحالفات السياسية أكثر من أن يكون حالة تسامح فكري لأنه ينم على نمطية التمترس خلف الآيديولوجيا.

لا شك في أن التسامح يعيش بيننا كعرب وكمسلمين اليوم في محنة تتجاذبه نزعات التنظير وواقعنا المتناقض في حاله بين التسيس والعنف الدامي. فالأخلاق عموماً لازال عمادها الدين ولم تخضع بعد في عالمنا العربي والإسلامي لحالة التعامل معه على أسس علمية. ولم تُكفل بعد الحقوق والحريات من قبل أي نوع من السلطة في مجتمعاتنا كالدولة والقبيلة أو حتى ضمن سلطة الدين نفسه. نيتشه صاحب مذهب القوة، الذي تلقى آراؤه رواجا كبيراً اليوم في عصر ما بعد الحداثة، وحتى في عالمنا العربي الآن، باعتباره ناقداً فذاً لعصر التنوير الأوربي، إذ ينادي بأن تخضع الأخلاق لحسابات العلم من خلال التمييز بين "أخلاق العبيد" و "أخلاق السادة" ، كون الأولى تظل مقيدة بنظرات اللاهوت الجامدة، المتناسية لعنصر النسبية ووطأة الزمن. فأمام حالة اللاتسامح الشائعة في بلادنا وأزمة القيم المشتعلة في ليبيا هل يمكن طرح مجرد سؤال عن مدى إمكانية النظر في مأزق التسامح بأكثر جدية أمام كل هذا العنف والصدام والفشل؟!. لا شك أن التسامح كخُلق يعتبر قيمة رفيعة وحسا نبيلا ينطوي على روح الإيثار تجاه الآخر، لكن ضراوتنا على بعضنا في ليبيا بسبب السياسة والمصالح أبانت لنا على الأقل مدي المأزق الكبير الذي نعيشه وبإفلاس مرعب يتلاشى فيه بصيص التسامح المزعوم في منظومتنا الفكرية المأزومة.